هذا الحراك الثوري في الجزائر

هذا الحراك الثوري في الجزائر

11 ابريل 2019
+ الخط -
يتواصل الحراك الثوري في الجزائر، ويغطّي مساحةً تتسع كل يوم، في مدنٍ جزائريةٍ كثيرة، تغذّيه انتصارات الثورات العربية سنة 2011، ويستفيد من عثرات كثيرة لبعضها، محاولاً تدشين الموجة الثانية من الثورات العربية، بروحٍ تتوخّى، ما أمكن، تَجَنُّب المصائر التي آلت إليها بعض هذه الثورات، وخصوصا في كل من اليمن وسورية وليبيا. ونحن نتابع الحراك الاجتماعي المذكور، بدا لنا أن الشباب الجزائري يحرص أشد الحرص على مواصلة التظاهر السلمي، مُقَدِّماً الدليل على أهمية خياراته السياسية، الهادفة إلى بناء عقد سياسي جديد داخل المجتمع الجزائري، يقطع مع النظام المُهَيْمِن والسائد منذ عقدين.
يرفع المتظاهرون الجزائريون شعاراتٍ واضحةً، تُوجِز بدقة أهم الخيارات السياسية التي يرومون بلوغها. يتعلق الأمر برفضهم النظام السياسي القائم ورموزه، وتنديدهم بمختلف صور الفساد المتفشية في دوالِيبه. ويُفترض أن الشباب الذي يقود المظاهرات، وينخرط فيها، يَعِي جيداً المسؤولية المنوطة به، في مسألة لُزوم الاستفادة من دروس الربيع العربي. ولهذا السبب، لا نتردّد في وصف ما يجري اليوم في الجزائر بالموجة الثانية من الربيع العربي، الهادفة إلى التخلص من صور الاستبداد والفساد، والمتطلعة بحماسٍ إلى مشروع مجتمع الحرية والعدالة، مشروع تعبيد الطريق المؤدي إلى نظامٍ يَكْفُل لمختلف مكوِّنات المجتمع المشاركة في بناء الديمقراطية والإصلاحات السياسية المرتبطة بها. يتعلق الأمر، في النهاية، بإرادةٍ ثوريةٍ، تتوخّى تحديث المجتمع الجزائري، وكَسْر مختلف صُور الانغلاق والمحافظة التي تملأ كثيراً من جوانبه.
يُساهم الحراك الجزائري، المتواصِل بطريقة أو بأخرى، في خلخلة المشهد السياسي في بلدان 
المغرب العربي أولاً، ثم في مختلف الأقطار العربية، بحكم تشابه الأوضاع والسياقات، وبحكم الأوضاع العامة السائدة اليوم، في أغلب المجتمعات العربية، حيث تُمكِن ملاحظة أن شعارات الميادين والشوارع الكبرى في الجزائر تَهُمُّ مجتمعات عربية كثيرة في الوقت الراهن. ويمكن أن تساهم قوة الفعل الثوري الجزائري من جهة، في الدفع بمشاريع إنجاح الفعل الثوري مجدَّداً في كل من تونس والمغرب، كما قد يدفع، من جهة أخرى، إلى إنجاز عملية تحريكٍ قويةٍ في المشهد السياسي الليبي، الأمر الذي يفيد بأن الموجة الثورية في الجزائر تهم الجزائريين، كما تهم السوريين والتونسيين والمغاربة، بدرجاتٍ تتنوع إيقاعاتها وإيحاءاتها، حسب كل مجتمعٍ من المجتمعات المذكورة. ونتصوَّر أن دول المغرب العربي معنية أكثر من غيرها، وبصورة مباشرة، بكل ما يقع اليوم وغداً في الجزائر.
ترسم الموجة الثانية من الثورات العربية ما يكشف ويُحَدِّد أهمية الحرص الذي توليه الشعوب العربية، لبناء أنظمةٍ سياسيةٍ قادرةٍ على التصدّي لمختلف التحولات والتحديات التي تعرفها في عالم متغيِّر. عالم تتسع حُدُودُه، ويساهم بتعدّده واختلافه، في تطوير آليات العمل السياسي المُفِضِية إلى إنجاح مشاريع التنمية والعدالة. عالم يعرف الجميع اليوم أنه لم يعد يقبل، وأكثر من أي وقت مضى، بتسلُّط المتسلِّطين والمفسِدين. عالم يستفيد في حراكه الثوري من مزايا ثورات التواصل الرقمي، وذلك رقم مختلف قيود الأنظمة التي تواصل رفضها كل ما يسمح بتهييء شروط إمكانية التمرّس بآليات المشاركة في الفعل السياسي.
المواقف التي اتخذها النظام القائم، في أثناء تفاعله مع حراك الشارع، تُظْهِر أنه يبلور ردود فعله بخوف وتردّد كثيرين من كل ما يمكن أن يدفع الاحتجاجات السلمية المتواصلة اليوم نحو حدودها الأخرى، الحدود التي لا يستطيع أحدٌ التكهن بصورها المتوقعة، وخصوصا أن درجة انغلاق المجتمع والنظام في الجزائر تفوق، في تصوُّرنا، درجات انغلاق أغلب أقطار المغرب العربي التي تخطت فيها تحرُّكات الفعل الثوري سنة 2011، منعطفات عنق الزجاجة،
 وانخرطت في تدبير تداعيات ما بعده، على الرغم من كل العوائق التي ما زالت تواجهها.
بدأت المهزلة الصانعة حراك الشارع الجزائري، يوم أعلن النظام السياسي ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة. وفي هذا الإعلان، تلاعبٌ كثير بالشعب الجزائري ونخبه، وكثير من التلاعب الماكر بالرئيس الذي يعاني من وَهن شاملٍ لَحِقَه سنة 2013. أما المهزلة الثانية، فقد تجلت في الإجراءات التي تَمَّ إعلانها لوقف الحراك، إذ تبنَّى النظام شعارات المتظاهرين، وذلك بإعلانه تنظيم ندوة وطنية، بهدف وضع الخطوط الكبرى لإصلاح الدولة الجزائرية، وإعلان دستورٍ جديدٍ يضع المبادئ الكبرى لجمهورية ثانية، تكفل التوزيع العادل للثروة الوطنية، وتقضي على صور التهميش والإقصاء ومختلف مظاهر الفساد.
لا جدال في أهمية الإجراءات التي استوعبها الإعلان الثاني، وربط بينها وبين أن يشرف الرئيس بوتفليقة عليها، إلا أن اتساع درجة الاحتجاجات، وارتفاع أصوات حركتها وهدير هذه الحركة، في أغلب مدن الجزائر ومناطقها، جعلا النظام يعلن خطوة ثالثة، تقضي بتنحية الرئيس، فأصبحنا نواجه مقتضياتٍ دستورية، تكفل للجيش ترتيب المآل، ومقتضيات شعبية وسلمية، هدفها المركزي إسقاط النظام.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".