فاروق جويدة ومكحلة الرئاسة

فاروق جويدة ومكحلة الرئاسة

11 ابريل 2019
+ الخط -
للتاريخ مكرُه، وللشعراء دروبهم الخلفية مع السلطة، وللمنتفعين منهم كحلهم ومكاحلهم ومراودهم، ولنا تأمل حالهم من قصر إلى قصر، وللسلطة نفحاتها العينية وغير العينية، بشرط أن يحافظ الشاعر على ملء مكحلته كل آنٍ بالكحل، ويتقن نوعية المراهم والمراود من فضة أو من ذهب أو عاج، كي يزين أهداب سيدات قصورها كل آنٍ بالكلام الطيب، وبعض السير العطرة لزوم تجميل القبح الآخر المتعلق بحسني مبارك أو غيره، طالما الرجل كان على علاقة بسيدات القصور مباشرة، والسلطة دائما تحب من يسرد مناقب سيداتها برطب الكلام، ويا حبذا لو كان بصوت رخيم وعيون ناعسة.. هل هناك أكثر من فاروق جويدة للمهمة، سواء في عهد السيدة جيهان السادات أو عهد سوزان التي نال في عهدها "جائزة الدولة التقديرية" قبل أن يصل إلى الستين من عمره، وتلك كانت نادرة لم ينلها سواه؟
الشاعر دائما هو عرّاف القبيلة، وحامل رايتها، والناس تصدقه، والمهام تنتظره في كل حين. هل بالفعل خان الشعر فاروق جويدة الذي لم يصدر ديوانا منذ بداية التسعينيات، وتفرغ فقط للكحل والمكحلة والمراود، وتحسين صور الرؤساء وسيدات القصور في كل شاردة وواردة؟ هل باتت التنهدات والمآقي ودمع الفراق وسحر الهيام بعيدة عن صلاحية الشاعر فتفرغ للمكاحل والكحل، حتى انتهى به الحال منذ يومين إلى أن يقول، بكل يقين، كمقدمة بالطبع للتغييرات الدستورية المنتظرة التي لا تغيب عن أي لبيبٍ أو حتى غير لبيب: "مصر تشهد معجزة إلهية، والسيسي من حقه استكمال مشروعه". أو وهو يزيدها طينا حينما قال: "وزارة الثقافة تحتاج إلى الفريق كامل الوزير"؟
لم أستغرب المقولتين على الشاعر فاروق جويدة أبدا، لأن ذلك صلب شغله، خصوصا بعدما راح منه الشعر مع دموع المآقي التي سكبت في وداع غروب الشعر نفسه، بحيث لم يبق له من الأمل سوى الكحل والمكحلة ومرود من فضة ينقش به على جفون السلطة ما تحتاجه من ألوان وقت الطلب.
للقصر باب خلفي للوشم والعطر والجواري والشعراء، وحتى أهل الفقه في ساعات الفتنة والطلب، وفي الباب الخلفي أيضا قد تجد جاريةً مرسلة ببيتين لأبي نواس، وقد تأخذهما الخيزران، وتأمر له بجاريةٍ كي توقِعه في شر أعماله، ويمسي فضيحة بغداد. يحدث هذا كثيرا. يتطوع الآن فاروق جويدة بقول ما لم يتجرأ أن يقوله "شعرور" في بيت أي مسؤول، من دون أن ينال لا غمزة من الخيزران، ولا حتى ضحكة جارية، لأن الرجل كبر ولازمه ألم القلب، وقد كفّ عن الغزل من ربع قرن، أو حتى كفّ عن الشعر، وتفرغ فقط لقنوات المخابرات ومداهنة الحكّام.
صحيح أن الشعراء ليسوا وحدهم في هذا المضمار، فقد أصبح لهم منافسون (وأُسطوات) في هذا الفن الرديء. وللأمانة، لا أنسى أن أول من أعلن أنه لا بد من فترة رئاسية ثالثة (خاصة به وحده) استثناء، ويوضع ذلك مادة في الدستور، بحيث لا ينتفع بها أي أحد بعده، هو أستاذ العلوم السياسية الدكتور علي الدين هلال. لم يقل ذلك المطرب سعد الصغير أو الفنانة انتصار.
أما لو استعرضنا بقية أقوال "الأسطوات" فسنجد من تفوّق على الشاعر فاروق جويدة نفسه، وصب على عتبة الرئاسة زكيبتين من الكرم النفاقي، وفاق حتى الكحل والمراود والمكحلة والمراهم، بعدما قال مسؤول كبير في وزارة الأوقاف: "قرار السيسي زيادة الرواتب مثل الإسراء والمعراج"، فسبحان مثبت العقل والدين، فإذا قال شيخ أزهري معمم هذا الكلام، فماذا يقول الناس من عامة الشعب؟ وماذا يقول الشعر في جبال الألب نائحا حينما يرمي شاعرٌ آخرَ بضاعةٍ له من كلام على أعتاب السلطة، بعدما وصل إلى الثالثة والسبعين؟ فهل نحن أمام فتن واحدة في الشعر وكتّابه، وأخرى في صفوف أساتذة العلوم السياسية، وأخرى في الدين ومشايخه؟ أم أن هذا هو الأمر العادي في أزمنة الهزائم؟ فيا رب هوّن علينا آخر أيامنا في هذه البلاد، واحفظ الشعر والعقل والدين من تغوّل السلطات عليها ببريق الذهب.