الحاجة إلى نقد النقد في سورية

الحاجة إلى نقد النقد في سورية

08 مارس 2019
+ الخط -
بعد ثماني سنوات على المحرقة السورية، لا تزال نخب عديدة تثير قضية خلافية، ويختلفون حولها بطريقة عدائية، تستند إلى الإدانة التي تصل إلى حد التنابذ بالألقاب أحيانًا. القضية الخلافية محورها تسمية الحراك السوري، فمن لا يسميه "ثورة"، بل يطلق عليه تسمياتٍ أخرى، كالزلزال السوري أو الإعصار أو الحرب، مدانٌ مسبقًا ومتهمٌ بأنه ضد قضايا الشعب، وغير معني بما أصابه من قتل واعتقال وتشريد وإفقار وتجويع، وهو مؤيدٌ للنظام القمعي الذي عانى منه الشعب على مدى العقود الماضية حدّ الاختناق. وبالتالي، فقد سقط سقوطًا أخلاقيًا مدويًا. وفي المقلب الآخر، كل من يتداول أو يستعمل كلمة "ثورة" في خطابه عندما يتكلم عن الواقع السوري، أو القضية السورية، فهو متهم بالعمالة والارتهان إلى الخارج، والتآمر على الوطن، واعتبار الثورة حركة إرهابية عنيفة إقصائية متطرّفة مرهونة للخارج، غرضها تدمير الوطن وإضعاف الشعور بالانتماء إليه، وإعطاء مبرّر للصهيونية العالمية، كي تنفذ مخططاتها فوق أرضنا بتدمير بنيان الدولة والمجتمع.
بعد هذه السنوات الثماني التي تعد فترة طويلة بالنسبة للعصر الحالي، بما يتصف به من تقدم تكنولوجي ومعلوماتي وعلمي وعسكري وانفتاح، وتوفر وسائط الميديا لدى غالبية البشر، وبعد كل الانحرافات التي طرأت على الحراك الشعبي الذي كانت تتوفر لديه كل أسباب الاندلاع، من الجدير بالنخب تلك، بمختلف تسمياتها واختصاصاتها، أن تلتفت إلى نقدها السابق، وتؤسس لحركة نقد النقد، إذ لم يكن النقد الذاتي الذي تأخر، أو بدأ بخطوات متعثرة أو مرتبكة، مواكبًا للحراك كما كان مرجوًا منه، بل كان يتسم بشكل لافت بأنه نقد عاطفي، بعيد عن الموضوعية التي يجدر بالنقد أن يتسم بها.
معروفٌ أن الثورات تندلع بشكل مفاجئ، مثلما فاجأت انتفاضات الشارع العربي الشعوب 
نفسها، كما فاجأت الأحزاب والحركات التي كانت قد أنجزت ماضيًا من الحراك والنضال ضد السلطات الحاكمة، ودفعت أثمانًا ليست قليلة لقاء تبنّيها برامج وأهدافًا وشعارات على علاقة بمعظم مطالب الشعوب الواقعة تحت سلطة أنظمة قمعية أو جائرة، من مناداةٍ بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وتداول السلطة وغيرها. ومعروفٌ أيضًا أن مطالبها وأهدافها وشعاراتها تسعى إلى تجاوز الوضع القائم الذي تتضرّر منه أغلب الفئات الاجتماعية التي وصلت إلى ما يشبه الهشيم الجاهز للاحتراق عند أول شرارة، مهما كانت خاطفة. ولا ضرورة للتذكير بالشرارات التي أشعلت هشيم أرواح هذه الشعوب من لحظة اندلاع النار في جسد التونسي، محمد البوعزيزي، إلى اشتعالها في مصر وليبيا واليمن وسورية. واليوم السودان والجزائر، كما لا يمكن الرهان على نجاة بقية الدول في المنطقة من هذا الاشتعال، وقد يكون المنطلق بداية تمرّد فئةٍ من الشعب، سرعان ما تكسب تعاطف الشرائح الأخرى التي كانت تنتظر الفرصة، للتعبير عن ضيقها، وتعلن تمرّدها على النظام القائم، وبذلك تلتقي مصالح غالبية الشرائح، أو تجتمع رغبتها حول مطالب قد لا تتضح منذ البداية، فالحراك العفوي الفجائي يبدأ بصرخة سخطٍ ويتصف بالغضب، والحالة الانفعالية العالية، ثم لا يلبث أن تتشكّل لديه مجموعة مطالب ترقى، بحسب ردود أفعال النظام، إلى إزاحة السلطة الحاكمة، ووضع نظام جديد للحكم، يستجيب لمعايير الديمقراطية ومنح الفرص للجميع.
هذا ما حصل للحراك السوري الذي كان يرنو إلى أن يشكل ثورةً بكل معنى الكلمة، وكان من الطبيعي أن يفرز الحراك ما يعمل على تنظيم الشارع الثائر، والإشراف على الحالة الثورية، حتى وصول الثورة إلى غاياتها، ولكن بعد ثمان من السنين الدامية، لا يد من الوقوف في زوايا نظر مغايرة، والنظر إلى الحالة السورية، والراهن بكل معطياته، نظرة نقدية أخرى، ومحاولة استدعاء السنوات الحافلة بكل حمولتها، من أجل التأسيس لنقد النقد، الذي يبدأ ليس فقط بالاعتراف بأن أخطاء ارتكبت، بل بأن الاعتراف وحده لا يعطي نتيجة. لا بد من وضع تصوراتٍ أخرى عن الوضع، ولا بد من الاعتراف بأن الثورة تحولت إلى حربٍ جبارة، وهذا لا يعني أن مطالب الشعب يجب أن تُدفع إلى الهامش، بل من الواجب إعلاؤها مقدمة أو غاية لأي حراك سياسي يمكن تحقيقه.
الخلاف بشأن تسمية الحراك الشعبي ليس أهم القضايا حاليًا، فالمهم هو تأصيل المطالب والاعتراف بشرعيتها، لكن التحول، خلال مسيرة الحراك، أفرز معطياتٍ جديدة، في مقدمتها أن الأزمة السورية صارت مرتهنة بالكامل لمفاوضات قوى الصراع على المنطقة، وأن الحراك الثوري لم يعد موجودًا، بعد أن طغت عليه الحرب وفرضت أدواتها، وصار اللعب بمصير 
الشعب السوري والوطن السوري على المكشوف، كما صارت الولاءات مكشوفةً وبقوة، بعد أن كانت مواربةً في الفترة الأولى للحراك، ولم تعترف القيادات التي استلمت دفّة الحراك في سورية، واستأثرت بالتمثيل مدعومةً بمراكز قوى خارجية، بولاءاتها أو حتى بتكتيكاتها التي ساهمت، وبقوة فاعلة، في فشل الثورة، ومنها بشكل أساسي قوى اليسار والقوى العلمانية والديمقراطية التي مثلت قيادات المعارضة، إذ انساق بعضها إلى التحالف مع القوى الداعية إلى أسلمة الحراك وعسكرته، بل واستدعاء التدخل الخارجي. كان مأزقًا حقيقيًا لتلك القوى، وفشلاً ذريعًا في احتضان الحراك وتوجيهه الوجهة الصحيحة، بل وفي كسب مزيد من المؤيدين له من شرائح الشعب وفئاته، بدلاً من السكوت عن الخطاب الإقصائي لبعض الأطراف المتشدّدة، مبررة ذلك بأنها تحارب النظام، وتسعى إلى إسقاطه، فلا بد من التحالف معها وتأييدها، في وقتٍ كانت تلك القوى بموقفها هذا تساهم في دق الأسافين بين مكونات الشعب السوري، وتجعل الحراك يخسر عددًا من مؤيديه.
من المفيد نقد التجربة ونقد نقدها، من أجل ترك نواظم خطى تستفيد منها الأجيال القادمة التي لا بد من أن تكون لها رؤيتها وبرنامجها المستقبلي، فتعثّر الحراك لا يعني انتهاء المد الثوري، لأن الثورة الحقيقية عملية مستمرة، هي سيرورة بحد ذاتها تخلق حالة ثورية جديدة. وإذا كانت واحدة من الأخطاء التي وقعت بها الحركات الثورية في ما سمي "الربيع العربي" هي الشخصنة التي عبّرت عن نفسها بالمطالبة، بشكل أساسي، برحيل رأس النظام من جهة، على 
أهميته، منذ أن علت أول لافتة في الحراك التونسي تحمل كلمة "ارحل"، فإن هذا الخطأ من الجيد الوقوف عنده، والتأسيس لمرحلةٍ تتجاوزه، إذ المطلوب بالنسبة للثورات هو تفكيك النظام القائم وتفتيته، وبناء نظام جديد يحقق مطالب الشعوب. ورأس النظام لا يشكل إلا عقدة تلتقي فيها خيوط الشبكة التي يتشكل منها هذا النظام، إلا أن إزالة هذه العقدة لا تضمن بالضرورة انفراط خيوط الشبكة كلها، والأمثلة قريبة حولنا، في مصر وفي ليبيا وفي اليمن، والمبالغة في خلق أيقونات "ثورية" من أسماء في ضفة المعارضة من جهة أخرى. ويتطلب هذا الهدف، بحد ذاته، وعيًا عامًا وإدراكًا من الشعوب لواقعها وغاياتها. ويتطلب تجاوز المرحلة الحالية التي طفت على سطحها الانتماءات الأولية، ذات الطابع الطائفي أو المذهبي أو القومي، مدعومة وموجهة من أطراف الحرب، بين نظام وحلفائه ومعارضة وحلفائها. لم تساعد هذه الأوضاع، بطبيعة الحال، على تدعيم فرص التحول الديمقراطي، وعلى استثمار لحظة الثورة لغاية بناء مجتمع حديث.
ليست المشكلة في اسم الحراك، إنها أكبر وأعقد من ذلك بكثير، إنها إيجاد وعي جديد بأوضاع جديدة أضيفت إلى ما كان عليه الحال قبل الحراك، والذي دفع الشعب إلى الانتفاضة عند لحظةٍ تاريخيةٍ كان لا بد أن تأتي، فالثورة تتخلق في كل لحظة من رحم واقع جديد.