عندما شعرت القيادة بالإحراج

عندما شعرت القيادة بالإحراج

07 مارس 2019
+ الخط -
في عام 2004 انتشرت في روسيا عامة، وفي بطرسبورغ بشكل خاص؛ جماعات متطرفة نازية تتبنى أفكار هتلر، وترفع شعار "روسيا للروس"، وتقتل كل من هو غير روسي بمجرد مشاهدته في أي مكان، وكانت الحكومة الروسية متهمة بأنها تغض الطرف عنهم، ولا تلاحقهم، بحجة أنّ الجرائم التي يرتكبونها تخفّف من عدد المهاجرين غير الشرعيين من دول الاتحاد السوفييتي السابق.
في 13 من شهر آذار عام 2004 قتلت تلك الجماعات المتطرفة طالبا سوريا في محطة قطار نيفسكي، وهي المحطة الرئيسية في بطرسبورغ.
أثارت الجريمة البشعة الهلع والخوف في نفوس الطلاب السوريين والعرب، والأجانب عموما. وفي اليوم التالي ذهبت مع عشرات الطلاب السوريين إلى موسكو قاصدين مبنى السفارة السورية هناك، نريد مقابلة السفير السوري الذي سيخاطب الحكومة الروسية مطالبا بمحاسبة مرتكبي تلك الجريمة بحق زميلنا، وكيف وقعت في وضح النهار؟!
بعد وصولنا إلى مبنى السفارة بقليل خرجت إلينا موظفة، وقالت بأن "رواتب الموفدين قد وصلت، وإذا اصطففتم بشكل نظامي فستقبضون كلكم رواتبكم". وعندما أخبرناها عن سبب مجيئنا استغربت، وعلقت على الخبر قائلة: "ربما تخرجون إلى البلكونات بالملابس الداخلية، ولذلك يستهدفونكم"! فرد عليها أحد الطلاب ساخرا: "ومن سيجلس على البلكونة في هذا البرد القارس؟! ثم إننا في روسيا، ولسنا في إيران أو السعودية".
بعد قليل خرج إلينا موظف آخر، وقال بأن تجمعنا بهذه الطريقة أمام السفارة يعكس صورة "غير حضارية" عن بلدنا سورية، وهذا ما سيفسح المجال (بحسب زعمه) أمام الصحافة الأجنبية التي ستستغل الحادثة، وستصور التجمع على أنه امتداد لأحداث "الشغب" التي بدأت بعد مباراة الفتوة والجهاد في ملعب القامشلي، ثم إنّ التجمع (والكلام لازال للموظف) سيحرجنا أمام السلطات الروسية!
عاد الموظف إلى سفارة بلاده، ويبدو أنه تحدث مع سعادة السفير، والدليل على ذلك أنّ القنصل نفسه خرج إلينا ليقول أنّ السفارة ستتكفل بإجراءات استلام جثة زميلنا، وعودتها إلى أرض الوطن، ثم نصحنا بالعودة إلى جامعاتنا، والانتباه لدروسنا، ثم قرأ على مسامعنا الخبر العاجل: "لقد وصل خبر تجمعكم أمام السفارة إلى "القيادة" في دمشق، وهي تطلب منّا فض هذا التجمع بأيّة طريقة حتى لو اضطررنا للجوء إلى الشرطة الروسية التي ستتكفل بالأمر "على طريقتها".
عدنا أدراجنا إلى محطة القطار، وفي صالة الانتظار انتخبنا شخصا من بيننا سيرافق جثة زميلنا حتى يتسلمها ذووه.
عندما أرى اليوم صوره (الرئيس الأسد) المسربة في حميميم، وهو يقف ذليلا لا يجرؤ على تجاوز الخط الأصفر ولو لميليمتر، أو في حضن الخامنئي في طهران أتذكر كيف كنت ساذجا حين أدهشني وصول خبر تجمعنا أمام السفارة بتلك السرعة إلى القيادة، ولم يصلها خبر مقتل أحد مواطنيها في دولة أجنبية، وبدون سبب، وفي وضح النهار دون أن تجرؤ ولو بعد مئة سنة أن ترسل كتابا، أو أن تذكر هذه الحادثة في مراسلاتها الرسمية مع روسيا، أو حتى في إحدى نشراتها الإخبارية على القناة المحلية الأرضية التي لا يشاهدها أحد، لا روس ولا إيرانيون ولا غيرهم، وبالمقابل تشعر هذه القيادة بالإحراج من التجمعات غير الحضارية أمام سفاراتها!
سأل أحد الطلاب سأل عن المراسم اللوجستية لإرسال جثة زميلنا، فأجابه القنصل وقتها: "بعثنا كثير... هاي شغلتنا".
في محطة القطار؛ وبينما كنت غارقا في التفكير في التفاصيل، نكزني أحد الزملاء، وبيده مئات وعشرات من العملة الروسية؛ كان يجمع أجرة الطائرة للطالب المرافق لجثة زميلنا؛ رحمة الله عليه.
05EEE2E6-26E4-45A5-961C-DB4D99A9E40B
05EEE2E6-26E4-45A5-961C-DB4D99A9E40B
محمود إبراهيم الحسن (سورية)
محمود إبراهيم الحسن (سورية)