أبو عواد.. وداعاً

أبو عواد.. وداعاً

06 مارس 2019

نبيل المشيني.. جمع أفراد الأسرة العربية أمام "أبو عواد"

+ الخط -
علينا أن نستسلم، ونسلم بأن كل من أحببناهم، وتعلقنا بهم، سوف ينتهون تحت التراب، كل من شكلوا وجداننا، وأشاعوا في دواخلنا معاني جميلة وراقية، وحفروا في أرواحنا مبادئ لطيفة ومهذبة، وانتزعوا منا الاحترام نحوهم، حتى كدنا نصدّق أنهم سيبقون في تلك الزاوية من الحياة، حتى لو لم نلتق بهم، لكنهم يفعلون كما يفعل كل الناس، فهم يمرضون، وينال منهم العمر، ويوهنون، ثم ينتهون إلى ما تحت التراب.
نبيل المشيني، الراحل قبل أيام، أحد هؤلاء القلائل. لم أكن أعرف اسمه الحقيقي إلا بعد مرور سنوات طويلة على عرض مسلسله الجميل "حارة أبو عواد"، وارتبط هذا المسلسل بسنوات طفولتي، ففي العام 1981 حين أنتج هذا المسلسل، كنت في العاشرة، وكنت أتقافز مع أبناء جيلي، ونحن نغنّي تتر المسلسل. وكان أغلب ظني وقتها أن حارة أبو عواد هي حارتنا، وأنني سوف ألتقي به في أحد الأزقة، وسوف أسمعه، وهو يصيح بعبارته الشهيرة التي أصبحت لازمةً تلازمه، كلما صادف موقفا لا يعجبه، وهي "شي غاد". وللأمانة والصدق، لم يكن هناك حولي كثير مما يستحق ألا يعجبه، فحارتنا مثل كل الحارات في أوائل الثمانينيات، وكنا ما زلنا لم نستيقظ من جماليات سبعينيات القرن الماضي، وكل شيء حولنا كان يشير إلى أن الآتي أجمل، لولا أن جار أبو عواد، صاحب محل البقالة، زرع بذرة الفساد، حين حقن الدجاجة بالهرمونات، ليزيد من حجمها بسرعةٍ قياسية، ونحن الذين كنا نربي الدجاجة شهوراً حتى تصبح صالحةً للذبح ثم الأكل، ولكنه فاجأنا بأن الفساد قد بدأ يشقّ طريقه إلى عالمنا الجميل.
تحسّر أبو عواد (نبيل المشيني) على أيام الزمن الجميل، والواقع أن الأيام المقبلة في كل وقت تكون أسوأ مما سبقها، سواء على الصعيد العام أو الخاص. ولو تلفتنا حولنا لوجدنا أن كل من سبقونا قد تحسّروا على أيام الزمن الجميل، وقد فعل ذلك أبو عواد في مسلسله الأشهر قبل 37 عاماً. وهو المسلسل الذي لا يمكن أن يصنّف أجمل ما قدم الممثل الراحل، ولكنه كان الأقرب إلى الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج. وحين كبرنا اكتشفنا أن هناك انفعالات زائدة، وتمثيلا مفتعلا، لكن الحقيقة أن المسلسل قد شد الشارع العربي، لأنه عبر عن واقعه بصدق، ولا يمكن مقارنته بأيٍّ من مسلسلات هذه الأيام التي لا تعلق بالذاكرة، وتُستنسخ من عوالم غريبة عن حارتنا التي تحاول المحافظة على تقاليدها وعاداتها، على الرغم من الغزو التكنولوجي، وتحول الحارة الإسمنتية إلى حارة "فيسبوكية".
نجح أبو عواد في جمع أفراد الأسرة العربية أمام المسلسل، من دون أن يسمع الصغير كلمةً خادشة للحياء، أو يرى موقفاً يدلّ على قلة أدب الصغار مع الكبار، ومن دون أن تُصفع براءة البنت بخيانةٍ زوجية، ولا حمل سفاح ولا عشق ممنوع. ولذلك، كنا نلتف حوله آمنين مطمئنين. وأذكر أن المسلسل قد جذب جدّي، رحمه الله، وأول ما لفته هو الكوفية فوق رأس أبو عواد، وكان جدي يضعها مع العقال فوق رأسه، وكان ذلك يعني له الكثير، فحرص على سماع عباراته، وأحنى رأسه خجلاً، حين كان أبو عواد يغازل زوجته "أم العود". ولست أحسب جدي قد تغزّل بجدتي صراحة، ولكنه أحبها في حياتها وبعد مماتها، وظل ذكرُها يجري على لسانه، وفاءً لها حتى لحق بها.
لم تتفوق حارة أبو عواد على مسلسل "المفسدون في الأرض" أو "راس غليص"، ولكن توقيته كان مناسباً لأسرةٍ عربيةٍ يتهدّدها الشتات العربي السياسي. وهذا ما ترك أثره، وظهر جلياً في الجزء الثاني من المسلسل. ولست أتوقع ما كان سيقوله أبو عواد لو قدّر له أن يقدّم جزءاً جديداً من المسلسل هذه الأيام، ربما كان سيكتفي بعبارته "شي غاد"، ثم يغادر.

دلالات

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.