سياسة التجاهل والادّعاء

سياسة التجاهل والادّعاء

05 مارس 2019
+ الخط -
مع حلول المراحل الأخيرة من المواجهات العسكرية مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وخسارته آخر معاقله في منطقة الحدود العراقية السورية، تخبّط الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في قراراته حول المرحلة المقبلة، فقد أصدر إعلانه بالانسحاب الكامل والسريع من سورية، ليواجَه بمعارضة صريحة من المؤسسة العسكرية الأميركية، واستقالة وزير دفاعه الجنرال جيمس ماتيس. لتبدأ بعدها أسابيع من المداولات، انتهت بقرار إبقاء ما لا يقل عن أربعمائة عسكري من الألفين الذين أراد ترامب انسحابهم. مع ذلك، أصر الرئيس الأميركي على أنه لم يغير رأيه أو قراره. أما في العراق، مسرح عمليات "داعش" الآخر، فقد أدت زيارة ترامب غير المعلنة قاعدة عين الأسد، نهاية العام الماضي، وعدم التنسيق مع المسؤولين العراقيين إلى استياء وانتقاد. تحوّل ذلك الاستياء العراقي إلى إدانة وقلق من تصريحاتٍ أخرى أطلقها ترامب، قال فيها إن قواته ستبقى في العراق من أجل مراقبة إيران، فعلى الرغم من أن الطبقة السياسية العراقية تدين بوجودها في الحكم للاحتلال الأميركي ونتائجه، إلا أن أطرافها الفاعلة تتمتع بعلاقات وثيقة مع طهران، ولن تكون جزءاً من أي جهد عسكري يستهدف إيران.
تتحرّك إدارة ترامب في قراراتها متجاهلةً واقع العلاقات الدولية والظروف الاقتصادية والاجتماعية في سورية والعراق وجوارهما. والتجاهل لا يعني الجهل دائماً، وإن كانت هناك مدرسة من الآراء تعزو الآثار الكارثية للاحتلال الأميركي للعراق، وغيره من التدخلات الأميركية، إلى الجهل بواقع منطقة الشرق الأوسط وثقافتها. لكن التجاهل المقصود هنا يعود بصورة رئيسية إلى شخصية ترامب التي تميل إلى الاندفاع والصخب والإصرار على الادعاءات والأفكار المسبقة. حتى حينما يغير ترامب من قراراته، فإنه يصرّ على أن شيئاً لم يتغير، كما هو الحال في إصراره على أنه لم يغير قراره بالانسحاب من سورية التي يظهر فيها قفز ترامب على الواقع السياسي، من خلال عدم وجود رؤية لحل المشكلة التاريخية بين تركيا والأكراد، إذ تركز الاتصالات بين واشنطن وأنقرة أخيراً على الجانب العسكري. وعلى الرغم من عدم ظهور التفاصيل الكاملة لمهمة القوات الأميركية التي ستبقى في سورية، إلا أن نصفها أطلق عليه قوة حفظ سلام، في إشارة ترجّح أن مهمة ذلك النصف من القوات سيكون الفصل بين ما تسمى "قوات سورية الديمقراطية" التي يهيمن عليها الأكراد (وتدعمها أميركا) 
والجيش التركي وحلفائه المحليين. في المقابل، يعقد رؤساء روسيا وتركيا وإيران القمم من أجل التوافق والتنسيق بشأن سورية، وربما ما هو أبعد منها.
أما النصف الآخر من القوات الأميركية في سورية فسيبقى في قاعدة التنف، قرب نقطة التقاء الحدود السورية مع العراق والأردن. وهنا أيضا يبدو الاعتبار العسكري الميداني واضحاً، فالتنف معبر حدودي رئيسي بين العراق وسورية، وهي بالتالي تسيطر على ما عُرف بالممر البري بين إيران ولبنان، والذي طالما تحدثت وسائل الإعلام الأميركية أن إيران توشك أن تسيطر عليه. هنا أيضا تقفز السياسات الأميركية، لا عقلية ترامب فقط، على حقائق السياسة الإقليمية، فإيران لا تسيطر جغرافياً فقط على ما يسمى الممر الجغرافي أو الكوريدور، لكنها تسيطر، عبر تأثيرها المهيمن على السياسة العراقية، وعلى إسنادها التام للنظام السوري، وعلى قوة حزب الله في السياسة اللبنانية. وكل هذه الدرجة من السيطرة الإيرانية ما كانت لتتحقق لولا الاحتلال الأميركي للعراق.
ينطلق ترامب في قراراته الشرق أوسطية من توجيهه انتقادين أساسيين للرئيسين اللذين سبقاه، فهو يؤكد، منذ حملته الانتخابية، أن الولايات المتحدة لن تقوم مرة أخرى بأي عمليات بناء الدولة وبناء الأمة التي يفترض أن إدارة بوش الابن قامت بها في العراق. في المقابل، لطالما حمل ترامب على الرئيس السابق، باراك أوباما، واتهمه وإدارته بالسماح بتمدد تنظيم داعش، بسبب سياساته التي فضّلت الانسحاب وتردّدت في التدخل. بل وقدم ترامب هدية للمؤمنين بنظريات المؤامرة عندما قال إن إدارة أوباما هي من أوجدت تنظيم الدولة الإسلامية.
تقدم إدارة ترامب فشلها الخاص في الشرق الأوسط، فبعد بوش الذي دمر الكثير بسياسات الاحتلال العسكري، وأوباما الذي أضاع الكثير برغبته في الانسحاب من العراق بأي طريقة، وبالتوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران بأي ثمن، تقدّم إدارة ترامب سياسةً عنوانها التجاهل والادعاء. المشروع السياسي الذي تنهمك فيه إدارة ترامب هو مواجهة إيران، لكن هذه المواجهة لا تتم في العراق وسورية، حيث أعاقت طهران وحلفاؤها أي تحوّل حقيقي نحو الديمقراطية وبناء الدولة، لكن المواجهة تتم عبر رعاية بناء حلف بين أنظمة عربية وإسرائيل. ذلك هو العمل السياسي الوحيد الذي تقدّمت فيه إدارة ترامب في الشرق الأوسط، وهو عمل تدّعي أنه سيقود إلى "صفقة القرن". في الوقت نفسه، لا تتجاهل فقط حل القضية الفلسطينية، بل تتجاهل القضية برمتها، مثلما تتجاهل قضايا الشعبين في العراق وسورية. قد توفر القوة العسكرية والسياسية الهائلة لأميركا حركة باتجاه ما يريد ترامب أن يراه، لكن القفز على واقع السياسة والعلاقات الدولية لن يؤدي سوى إلى مزيد من التمزّق السياسي والاجتماعي الذي سيوفر دائما الظروف لولادة التشدّد وصعوده.
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
رافد جبوري

كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.

رافد جبوري