لوثة الهبوط على سطح الكونغرس

لوثة الهبوط على سطح الكونغرس

01 ابريل 2019
+ الخط -

ذهب إلى الولايات المتحدة، ليشكو من إقصاء عبد الفتاح السيسي خصومه السياسيين وبطشه بهم، فعاد يمارس إقصاءً أكثر حدّة للمختلفين معه سياسيًا، منصّبًا نفسه متحدّثًا باسم الثورة التي ستكتمل، وتمنحه فرصة محاكمة كل من لا يريدهم على المسرح السياسي ومعاقبتهم.
بعيدًا عن أن الممثل الشاب تعتريه مظاهر خواء فكري وسياسي، تجعل منه مجرّد فاترينة أنيقة، يعرض فيها الصنّاع المتخفون بضاعتهم التي لا يستطيعون الظهور بها، فإن فكرة طرق أبواب الكونغرس، من الأساس، ليس عملًا خارقًا، ولا بطولة استثنائية، فضلًا عن أنها ليست عملًا ثوريًا تمامًا، سواء كان الطارق إسلاميًا أو ليبراليًا، أو ممثلًا يصبغ وجهه بطلاءٍ ليبرالي، يخفي تحته فاشيةً أبشع مما يعتبره فاشيةً عسكريةً أو دينية.
في المقابل، هناك لوثة مضادة، تعتبر الحديث عن الشأن المصري في أي محفل دولي عملًا خيانيًا، وجريمة في حق الوطن، ومساسًا بأمنه القومي، وكأن كلمتين أمام الكونغرس الأميركي، لعرض بعض الأمور والحقائق التي يدركها أعضاء الكونغرس والإدارة الأميركية، أكثر من المتحدثين بها، ستؤديان إلى انهيار مصر.
من مفارقات لوثة الوطنية الفاسدة أن رجل الأعمال وثيق الصلة بالمشروع الأميركي، اقتصادًا وسياسًة، نجيب ساويرس، يأتي في طليعة المخوّنين والمكفرين بالوطنية، بينما هو نفسه كان ذلك الشخص الذي حجّ إلى واشنطن، حشدًا للانقلاب على الرئيس المنتخب، ويطالب من داخل معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أبريل/ نيسان 2013 بدور أكبر للولايات المتحدة، حتى لا تعود مصر إلى الوراء مرة أخرى، وكيلا يحكمها حكم فاشي وديكتاتوري، ويشدّد على ضرورة أن تقترن المساعدات الأميركية لمصر بمشروطية التزام مصر بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة واستقلال القضاء وحرية الصحافة.
لم يكن الهبوط على سطح الكونغرس عملًا خارقًا غير مسبوق، كما أنه ليس جريمة في حق الوطن، أو خيانة للشعب، إذ سبق أن زارت شخصياتٌ مصريةٌ معارضةٌ للانقلاب واشنطن والتقت أعضاء الكونغرس قبل أعوام، وصاحب ذلك الجدل ذاته الذي تفجّر عقب زيارة وفد مصري أخيرا، وحديثه عن التعديلات الدستورية والانتهاكات الحقوقية.
ردة فعل السلطة في مصر على هذه الأنشطة باتت محفوظة، ومفهومة، إذ تنطلق على الفور ماكينات الاتهام بالخيانة والعمالة، لتبدأ بعدها إجراءات التنكيل والشلح من المؤسسات والنقابات، وصولًا إلى دعوات إسقاط الجنسية ومصادرة الأموال والممتلكات.
كل ذلك متوقع ومفهوم من نظامٍ يرى نفسه مثل قمينة الطوب المشتعلة، وقمائن الطوب ظاهرة قديمة تعرفها القرى المصرية، وتُقام فوق الأراضي الزراعية بعد تدميرها وتجريفها، وتحويل تربتها الخصبة إلى طمي، يتم صبّه في قوالب، داخل بناءٍ تلقى في جوفه كمياتٌ هائلة من الأخشاب ومواد الإشعال، ويبقى مشتعلًا شهورا طويلة، تحت حراسة مشدّدة، ذلك أن حجرًا صغيرًا يلقيه طفلٌ عابر على القمينة من شأنه أن يقوّضها، ويجعلها كومةً من التراب المشتعل.
غير أن غير المتوقع، وغير المفهوم، هو ردود الفعل الصادرة من جهة بعض الذين زاروا الكونغرس، إذ أصابت لوثة مماثلة بعضهم، فصار يتوهم أنه، برحلة واحدة أمس، بمفاتيح الوطنية في يد، وبمفاتيح الثورة في اليد الأخرى، وراح يصنف الناس، أبرياء ومجرمين، حسب مسطرته الشخصية، وينصّب نفسه معيارًا للوطنية الحقة والثورية النقية، بل والتديّن الصحيح أيضًا، فيتوعد، حال نجاح ثورته الجديدة، بمحاكمة هذا ومعاقبة ذاك، ولم لا والكل مجرمون وهو البريء وحده، لا لشيء إلا لأنه نجح في الهبوط فوق سطح الكونغرس، العالي، فلا أقل، إذن، من الاستعلاء والتطاوس الفج والفارغ على خلق الله الذين لم يعرفوا الطريق إلى الكونغرس.
يدهشك أن الممثل الشاب الذي يتوعد بمحاكمة قيادات الإخوان المسلمين ومعاقبتهم على جرائمهم بحق ثورته، ذهب إلى الكونغرس معية زميله في الزيارة، ابن أحد قيادات "الإخوان"، ممن يواجهون فظاعات التعذيب والبطش داخل سجون النظام، منذ ست سنوات، وهو العالم الدكتور صلاح سلطان، بمباركةٍ، بل وتحريض من أيقونات الفاشية الثورية التي تلقن هذا الممثل الشاب ما يقول ويعلن، بلا أي خجلٍ أو وخزة ضمير، على الرغم من أنه وتياره كانوا من المتسببين في صناعة كل هذا الخراب، وداعميه في بداياته.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا