ضرب من الفانتازيا

ضرب من الفانتازيا

01 ابريل 2019

(بهرام حاجو)

+ الخط -
كفّ صنّاع السينما وكتّاب النصوص الأدبية عن تلفيق النهايات السعيدة للأحداث، حيث تتحقق العدالة بانتصار الخير في النهاية، فيفرح المتلقي، ويطمئن إلى أن الحق يعلو، وأن الباطل كان زهوقاً في جميع الأحوال، بل فقدت الأعمال الفنية القائمة على الغرائبية والفانتازيا شعبيتها لصالح الأعمال التي تعتمد الواقعية الخشنة، ولا تعمل على تجميل الحقائق والتخفيف من قسوة الحياة وبشاعتها. وقد تخلى المتلقي عن سذاجته ورومانسيته، وفضّل الأعمال الأدبية والفنية التي تحترم ذكاءه، لقناعته بأن الحياة لم تعد تحتمل أي عملية تجميل إضافية، فقد تمزق وجه الحقيقية إرباً، ولم يعد هناك داع لبيع الأوهام.
تقول الحقيقة القاسية المجرّدة إن الشر ينتصر في نهاية الأمر، والأمل مجرد مسكّن، انتهت مدة صلاحيته، وفقد مفعوله إلى الأبد، وها هي صور ضحايا المسجد في نيوزيلندا تكتسح الفضاء تأكيداً على ذلك؛ جثث لعزّل إلا من اليقين والإيمان، أرواح بريئة مغدورة، بفعل توحش الكراهية والحقد. ذهبت تلك الجموع إلى الصلاة في بلاد الغربة تقرباً إلى الله، يرفعون أكفهم بالدعاء، يصغون خاشعين لصوت المؤذن. يصطحب بعضهم الصغار، حرصاً على استمرار الشعائر، وعدم فقدان الهوية والعقيدة، ليأتي الموت أبيض البشرة، خالياً من شبهة "داعش"، محملاً بالحقد الأسود، كي يحصد، في لحظة غفلة عبثية، تلك الأرواح المغدورة. ويسأل عرب مصدومون: أين تقع نيوزيلندا أصلاً؟ ولماذا يقيم فيها كل هؤلاء العرب والمسلمين؟ ولماذا يغادرون أوطانهم وأهلهم وأماكنهم الأولى، ويشيدون حياة جديدة في بلاد نائية؟ من المسؤول عن غربتهم؟ ومِمَ هربوا في بداية الأمر؟ الجميع يعرفون الإجابة، لأنها لا تحتاج إلى تفكير عميق.
صحيحٌ أن رئيسة وزراء نيوزيلندا عبّرت عن تضامن وتعاطف كبيرين، بأسلوب حضاري. وكانت في منتهى الحساسية، وبدت جميلةً، مثل سائر نساء نيوزيلندا اللواتي ارتدين المناديل في حركة رمزية أنيقة، تعبر عن مدى تعاطف الشارع النيوزيلندي، وغضبه الشديد، من جرّاء هذا الانتهاك السافر لأرض الدولة، التي جنّدت كل طاقاتها لحماية أولئك الغرباء المستضعفين الهاربين من الجوْر في بلادهم غير الرحيمة. ومع ذلك، ثمّة من حاول إيجاد مبرّرات لأصوات يمينية بغيضة، ناشزة، أحدهم نائب في البرلمان، تلقى بيضة على سحنته، بسبب مباركته المجزرة، وإلقاء اللوم على الضحية، لمجرد اعتناقها عقيدة مغايرة. ويبقى جميلاً، على الرغم من كل شيء، هذا التضامن والتعاطف والندب والشجب والحزن والغضب الذي أبداه العالم تجاه المأساة، غير أن ما يُحزن القلب أن ما حدث قد حدث، ولن يفيد كل هذا الصخب في التخفيف من مُصاب عائلات الضحايا الذين فقدوا أحبتهم، ولن يحول كذلك دون حدوث مجزرةٍ مماثلةٍ في القبح، حين توفر شرط الكراهية والتعصب والإقصاء.
وعلى صعيد آخر، ينتصر الشر من جديد، حين يؤدي التنسيق الأمني الرفيع المستوى إلى القبض على عمر أبو ليلى، الفتى الفلسطيني البطل الذي حمل روحه على كفيه، حرفياً وحقيقة، وليس من باب المجاز الذي لا يغني عن وطن منهوب سليب، وقد روّع العدو، وأشعل جذوة كادت أن تنطفئ في القلوب التي مسّها اليأس. قالت أمه الصبية اليافعة، وسط ذهولها وصدمتها، إنها تزغرد، للمرة الأولى في حياتها. وقالت منتهى الرمحي، تعليقاً على صمود الأم العجيب، إنها غير مستعدّة للتضحية بابنها من أجل أي قضية في الدنيا، ولو كانت قضية فلسطين، فتعرّضت منتهى لتقريع شديد من أناسٍ يشاطرونها الموقف نفسه، لكنهم وجدوا في تصريحها، غير الضروري وغير الحساس، الذي جاء في غير وقته، وجدوا فيه فرصةً ثمينةً للمزايدة والنضال الإلكتروني غير المكلف. وقالت العجوز الفلسطينية التي أوى البطل الشهيد إلى بيتها: منهم لله العملا.
ويسجّل الشر انتصاراً جديداً، حين تتلقى إسرائيل عطية جديدة، يقدمها ثور البيت الأبيض الهائج، معلناً أن الجولان التي ورثها عن أسلافه (!) أرضٌ إسرائيلية، قالها هكذا بكل صفاقة، غير عابئٍ بغضب الشعوب العربية، وهو على يقين أن معظم شبابها مقهور ومحبط ومهزوم، وأن أقصى طموحاته تقلصت في هجرة قريبة، وأملٍ بخلاص شخصيٍّ في بلاد الاغتراب، لأن أحلامه بمستقبلٍ تتحقق فيه العدالة والحرية في الأوطان باتت ضرباً من الفانتازيا، ليس أكثر.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.