لكم إسلامكم ولنا إسلامنا

لكم إسلامكم ولنا إسلامنا

31 مارس 2019
+ الخط -
من وجهة نظر داعشية صرف، أراهن على أن إشهار يورام فان كلافرن إسلامه يُعدّ "خسارة" للإسلام لا ربحًا، لأنه جرّدهم من مشروع ضحية جديدة، كان يمكن أن تروي بعض ظمئهم لسفك الدماء. وكلافرن سياسيّ ونائب هولنديّ سابق، ويعدّ الرجل الثاني في الحزب اليمينيّ المتطرّف "بي في في"، والمعروف بعدائه الشديد للإسلام. والمفارقة الغريبة بشأن الرجل أنه كان من أشد المعادين لهجرة المسلمين إلى هولندا، ما دفعه إلى محاولة تأليف كتاب يشرح فيه أسباب عدائه الإسلام، فراح يبحث في كتب إسلامية للتعمق في هذا الدين، ثم ليخرج بنتيجةٍ معاكسةٍ لما أراده، بعد أن أعجبه ما قرأه، فما كان منه غير إشهار إسلامه.
والحال أن "الخسارة" لا تتوقف عند "داعش" وأضرابه من تنظيمات إسلامويّة، لا تمنح ضحاياها فرص النطق بالشهادتين، بل تتجاوزها إلى مزيد من "رجال الدين"، وفي مقدمتهم، بالنسبة لي، جارنا إمام المسجد الذي ابتلاني الله بسماع خطبه كل جمعة، بحكم "الجيرة"، ليس إلا، فقد اعتاد هذا الشيخ المفوّه أن يدعو بالوبال والهلاك على اليهود والنصارى. وفي أحيان أخرى، يضيف الشيعة، وربما لو أسعفه وقت الخطبة، لدعا على الهندوس، وعلى سائر الملل الأخرى؛ ففي عرفه وقناعته أن كل من لا يشاركني ملّتي هو عدوّ بالضرورة، يباح الدعاء عليه، أي أن كلافرن كان منضويًا، بحكم نصرانيته السابقة، ضمن الخصوم الذين تسدّد إليهم مدافع تلك الأدعية وقاذفاتها المنطلقة من حنجرة خطيبنا التي تعيش حالة طوارئ قصوى على مدار الثانية.
والآن، ماذا لو تناهى إلى خطيبنا إياه نبأ إشهار إسلام كلافرن الذي طاولته سهام الأدعية سابقًا؟ هل يملك شجاعة الاعتذار فيعتذر له، مثلًا. ولو فعل، هل يؤمن بأن مقولة "الرصاص الّلي ما بيقتل بيجرح"، تنطبق على كلافرن أيضًا، بمعنى أن اغتيال الشخصية قد حدث وانتهى الأمر؟ الواقع، حدث ذلك، فعليًّا، منذ تغلغل التطرّف في مفهومنا المشوّه للدين، فصرنا نفرز الناس وفق ثنائية "كافر" و"مسلم"، ولا شيء بينهما، ولا حتى دعاء نبيّنا الكريم الذي رفض أن تنتقم له الملائكة من أهل الطائف الذين آذوه وخذلوه، بل آثر أن يصفح عنهم؛ لأنه كان يأمل أن يُخرج الله من أصلابهم من يوحد الله، ولا حتى وصيّته المأثورة لعليّ بن أبي طالب: "لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم".
أما أئمة الزمن الراهن، في معظمهم، فلم تعد تستوقفهم تلك الأحاديث الرسولية الإنسانية، فضلًا عن "داعش" بالطبع، بل يؤثرون عليها مقولة "ما زاد حنّون في الإسلام خردلة"؛ لأنهم يعيشون "فوبيا" إسلامية من نوع آخر، لا خوفًا من الإسلام، بل على الإسلام، غير أن هذه الفوبيا تدفعهم إلى التطرّف والنظر بعين الريبة والشك في كل من لا يدين بديانتهم، ومن حقّهم بالتالي أن يدافعوا عن الإسلام، بتكفير الجميع والدعاء عليهم، وذلك "أضعف الإيمان".
في المقابل، ماذا لو قيّض للهولندي كلافرن أن يستمع لسيل الشتائم التي طاولته سابقًا، قبل أن يعتنق الإسلام، أعني هل كان سيشهر إسلامه، أم كان سيفرّ بما كان عليه، ما دام أنه لن يخرج من دائرة التطرّف التي كان يعيشها أصلًا؟ على الأرجح، ينسحب هذا التساؤل، أيضًا، على الفيلسوف الفرنسي المسلم، روجيه غارودي، الذي مات وفي قلبه غصّة مما كان يراه في بلادنا من "إسلام الدراويش"، ومن مفاهيمنا وتأويلاتنا الخاطئة للإسلام، إلى حدّ جعله يصرخ فينا ذات يوم: "لا تقرأوا القرآن بعيون الموتى".
والحال أنه لا توجد سوى إجابة واحدة عن هذا التساؤل الممضّ، سيقولها كلافرن، وربما قالها غارودي قبله، وسنقولها نحن أيضًا ممن نعيش في بلاد "الموتى": "لكم إسلامكم ولنا إسلامنا".

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.