حكموا باسم بوتفليقة ثم خذلوه

حكموا باسم بوتفليقة ثم خذلوه

31 مارس 2019
+ الخط -
تستمر منذ نحو شهر ونصف الشهر التحركات الاحتجاجية في الجزائر، الساعية إلى عدم التجديد لعهد الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة. بدأت الشعارات محتشمة ومتردّدة. ولكن أحلام الجزائريين سرعان ما تمددت، وتوسعت تطلعاتهم، لتكبر أكثر فأكثر. غابت الشعارات الراديكالية في الأسبوع الأول. لم تحضر في هتافات الجماهير الهادرة شعارات من قبيل إسقاط النظام، ثم بدأت تدريجيا، ومعها تجذّرت المطالب، وصارت أكثر راديكالية، لتطالب بالتخلص من كل الطبقة السياسية، في ما يشبه "ثورة بيضاء"، لسلميتها ومدنيّتها وتحضرها، ولا تتردد في الدعوة إلى إسقاط النظام.
حدثت، خلال هذه المدة، تحولاتٌ مهمة في المشهد الاحتجاجي، والسياسي عموما، لم تقتصر على السقف العالي في مطالب المحتجين، ولا على طبيعتهم، وتنوع أصولهم الاجتماعية المهنية، ومشاربهم الفكرية، بل شملت أيضا مواقف الأطراف السياسية الداعمة لبوتفليقة، لعل أهمها موقف مؤسسة الجيش، والنخب السياسية التي كانت تشكل الحزام السياسي الذي حكم به عقدين تقريبا.
ليس من تجنٍّ على مؤسسة الجيش في الجزائر، اعتبارها طرفا سياسيا، فلها في تاريخ الجزائر السياسي الحديث حضورٌ مؤكّد في المشهد السياسي، إلى حد أنها غدت فيه لاعبا حاسما. وقد جاءت الخطابات الأولى لرئيس أركان الجيش الجزائري، أحمد قايد صالح، في بداية الحراك الاحتجاجي، صادمة، فقد تبنّى موقفا يماثل بقية مواقف قادة جيوش عربية اندلعت في بلادها احتجاجات وثورات، ولم تر فيها سوى عمل طائش لشبابٍ مغرّر بهم، وهو ما يذكّر بحبوب الهلوسة والشرذمة الطائشة، وغيرها من مفردات الثلب والطعن في أصالة تلك الحراكات ومشروعيتها. ويبدو أن رئيس الأركان سرعان ما تدارك نفسه، حين بدأ الإيحاء بأن الجيش يتفهم التظاهرات، وخصوصا أنه يقف على شعبيتها وصلابتها، فغدا الموقف مرتبكا عائما
 غائما. ثم صمت الجيش مدةً بدا أنه كان في حاجةٍ لها لاستعادة المبادرة، على ضوء تقديراتٍ معقدةٍ لتطورات الأمور ومآلاتها، خصوصا بعد أن استطاع المحتجّون تعبئة الشارع، وانضمت فئاتٌ عديدة غير متوقعة إلى الحراك، القضاة والمحامون والنقابات والإعلاميون وغيرهم. عندها تطور موقف المؤسسة العسكرية، ليتم التلميح إلى أن الجيش والشعب في جبهةٍ واحدة، وأنه يتبنّى مطالب المحتجين. وتظل تلك الكلمات عامة ومجرّدة، ولم تأخد شكل مقترحاتٍ أو حلول، إنما عبرت عن تفهمٍ ما للحراك الشعبي. وبعد أقل من أسبوع، بدا الموقف يعبر عن شكلٍ من التعاطف والمساندة لما يسمّيه العسكر "الشعب"، وهو موقفٌ ينبئ بتحوّل جذري عميق في موقف المؤسسة العسكرية، مكّنها من التدارك، وكسب تعاطف قطاعاتٍ واسعةٍ من المحتجين، بعد أن كانوا ينظرون إليها بتحفظٍ، ويعتبرونها مكونا من الأزمة السياسية في الجزائر، ليس فقط منذ انطلاق الاحتجاجات، بل منذ الاستقلال. ذلك أن الجزائر أخفقت، بعد الاستقلال، في إيجاد حقل سياسي مدني، يتيح المبادرة السياسية الحرة خارج رقابة الجيش الذي ظل يلعب لعبة السياسة بأشكال أخرى. وقد تشكّل في البلاد نظام سياسي ثلاثي الأضلاع: حزب واحد احتكر الحياة السياسية، جيش يدير كواليس الحقل السياسي وينتقي اللاعبين الحقيقيين، ونخب أعمال هجينة، تتقاطع فيها مصالح السياسة بالعسكر والعائلة. لم يكن النسق قارّا خلال ذلك التاريخ، وإنما كانت المكونات، وهي في انسجامها البنيوي، تعيش صراعا حادا أحيانا، وخافتا أحيانا أخرى، حسب موازين القوى والتحالفات والسياقات. في ذلك كله، تم إحكام القبضة على الساحتين، السياسية والاقتصادية، في ما يشبه الأنظمة الشمولية، مع هامش ضئيل من حرياتٍ شكليةٍ توسعت في عهد بوتفليقة.
التحوّل الثاني في المواقف المسجلة أخيرا، والذي يستحق التدبر، موقف الأحزاب التي التقت مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وتحديدا حزب التجمع الوطني الديموقراطي الذي شكل، مع أحزابٍ أخرى، أطلق عليه الجزائريون "الموالاة"، سندا سياسيا قويا لبوتفليقة. سارعت الأحزاب تلك، في الأيام القليلة الماضية، إلى التعبير عن مساندتها المطلقة مطالب المحتجين، وتبنّيها، فيما كانت، إلى أيامٍ قليلة، ترى فيها صخبا وضجيجا يربك الدولة، ويوشك أن يدفع الجزائر إلى أتون المجهول، ملمحةً إلى مخاطر الانزلاق إلى العنف والإرهاب.
كيف نفهم كل هذه التحولات في مواقف الجيش والحزام السياسي الذي شكل نخبة الحكم في عهد بوتفليقة؟ لا ينمّ الأمر عن مراجعاتٍ حقيقية، تشي بالقطع مع ثقافةٍ شموليةٍ شلت الحياة السياسية في الجزائر، وشوّهتها. ولكن من الأرجح أن تكون قفزةً أخيرةً من مركبٍ يترنّح. يعوّل هؤلاء على التطهر ثانية، والالتفاف على المطالب تلك، حتى يقودوا المرحلة المقبلة، مراهنين على الدولة العميقة، وارتباك المحتجين الذين بدا عليهم بعض الانقسام. والأرجح أن يرافق بعض القديم الجديد لقيادة مرحلة انتقالية، لن تكون جذريةً، بل سيتم تهجينها إلى حد كبير. من خذلوا بوتفليقة هم من حكموا باسمه، تخلوا عنه ما إن بدا أن مركبه غير سليم.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.