في أصل "المعضلة الإخوانية"

في أصل "المعضلة الإخوانية"

04 مارس 2019
+ الخط -
لا مبالغة في القول إن جماعة الإخوان المسلمين تعيش أياماً حالكة، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى التنظيم، كما أنها خسرت كثيرين من أنصارها، إما بسبب رعونة قياداتها وفشلهم في قراءة خريطة التغيرات الإقليمية والعالمية، والتي تضع مواجهة الجماعة وفروعها وأعضاءها في مقدمة أجندتهم، أو بسبب حالة القمع غير المسبوقة التي تتعرّض لها الجماعة منذ سقوطها منتصف عام 2013، وما نجم عن ذلك من تدميرٍ للبنية التحتية، الاجتماعية والمالية والتربوية، للجماعة الأم في مصر. والأخطر من ذلك تراجع رأس المال الاجتماعي والرمزي للجماعة، بفعل عملية الشيطنة والتشويه الذي تتعرّض له. بيد أن أخطر ما تواجهه الجماعة هو حالة الفقر الفكري وعدم القدرة، والجرأة، على تقديم أفكار وأطروحات جديدة، يمكّنها من وقف النزيف الذي يحدث بين شبابها وأعضائها. وهو ما يطرح السؤال بشأن مستقبل الجماعة، ليس حركة أو تنظيما، وإنما فكرة ملهمة لأنصارها ومؤيديها.
وباعتقادي فإن جذر المشكلات الحالية لجماعة الإخوان المسلمين يعود إلى البدايات، وإلى عدم حسم الجماعة خياراتها الكبرى منذ نشأتها، والمتعلقة بطبيعة العلاقة بين مجالات الحركة وأنشطة الجماعة المختلفة، فمنذ نشأتها، أوائل القرن الماضي، انخرطت في أربعة مجالات أساسية: الدعوة، والتربية، والعمل الخيري، والعمل السياسي. ويمكن القول، بقدر من الثقة، 
وبناء على قراءة الخبرة التاريخية للجماعة، أنها حققت نجاحاً كبيراً في المجالات الثلاثة الأولى (الدعوة والتربية والعمل الخيري)، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في المجال الرابع، السياسي، وذلك منذ قرر مؤسس الجماعة، حسن البنا، الانخراط فيه أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. بل الأكثر من ذلك، تكرّر الفشل السياسي للجماعة، تقريباً بالطريقة نفسها، منذ أوائل الخمسينيات.
على مستوى الدعوة، تحولت "الإخوان" من جماعة محلية إلى جماعة عالمية، أو ما بعد قومية، أو ما تسمى بالإنكليزية transnational movement، ووصل عدد فروعها إلى أكثر من سبعين فرعاً بطول العالم الإسلامي وعرضه، من ماليزيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، بالإضافة إلى نشاطها في العالم الغربي، تحت مظلات وأسماء مختلفة. كما أن أحزاباً، وأحياناً دولا، تبنت أفكار الجماعة ورؤاها، واتبعت أسلوبها في الدعوة والتبشير بأفكارها وأفكار مؤسسها على مدار العقود الماضية. ولعل المسألة المهمة التي ساهمت في انتشار أفكار جماعة الإخوان وأيديولوجيتها، وزيادة مؤيديها وشعبيتها في العالم، هو ما أسماها مؤسّسها، حسن البنا، شمولية الإسلام، وهي الفكرة التي تمثل، على بداهتها وبساطتها، محوراً أساسياً من محاور الدعوة لدى جماعة الإخوان، فالإسلام، بالنسبة للجماعة، ليس مجرد طقوس وعبادات، وإنما هو طريقة عمل، ومنهج حياة على المسلم أن يتمثله في جميع جوانب حياته اليومية. وهي فكرة ملهمة لمسلمين كثيرين يشعرون بأن هويتهم في خطر، ويجب الحفاظ عليها من خلال الدين، بمعناه الشامل، مرجعيةً عليا، مصدراً للقيم والسلوك.
أما التربية، فقد نجحت الجماعة، بشكل كبير، في تكوين محاضن للتنشئة الفكرية والثقافية والدينية، من خلال عمليات مكثفة ومتواصلة لإعادة تشكيل الهوية الفردية، كي تصبح هوية "إسلامية" بمقاس إخواني. والتربية لدى "الإخوان" تبدأ منذ التحاق الأفراد بها، وحتى تركهم لها، أو من الميلاد وحتى الوفاة، ما دام الفرد عضواً فيها. وهي تخترق الفضاء الخاص للأفراد، بدءاً من الأسرة مروراً بالمدرسة والجامعة ومكان العمل، وانتهاءً بالفضاء العام الذي يعيش فيه مع بقية إخوانه الأعضاء في الجماعة. وهناك قواعد خاصة للتربية، يخضع لها كل إخواني، تقوم على مجموعةٍ من القيم والمعايير والطقوس التي تشكل هوية الأعضاء، وتحكم رؤيتهم لأنفسهم، وللمجتمع، وللكون. لذلك، ليس غريباً أن يتشابه الإخوان المسلمون، إلى حد بعيد، في أنماط تفكيرهم، وفي رؤيتهم للقضايا المختلفة، وفي علاجهم المشكلات التي يواجهونها. لا يعني هذا بالقطع أن "الإخوان" حركة مصمتة ومغلقة، وإنما يعني بالأساس أن جميع أعضائها يخضعون لبرامج مشابهة للتكوين الفكري والإيديولوجي، تساهم في ربطهم بالحركة وقيادتها. وهو أمر لا يختلف كثيراً عما كان يحدث داخل الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية التي تستخدم الطرق والأساليب نفسها في تنشئة أعضائها. لذا، ثمة لغة مشتركة، ورموز مشابهة، يتداولها "الإخوان" في محيطهم التنظيمي.
وبخصوص العمل الخيري، فقد نجحت جماعة الإخوان المسلمون في تشكيل شبكة واسعة من المؤسسات والمنظمات الأهلية التي تقدم الخدمات في مجالات التعليم والصحة والخدمات 
الاجتماعية، خصوصا في الأحياء الفقيرة وضواحي المدن والقرى. وبغض النظر عما إذا كانت هذه المؤسسات تنطلق من رسالة دينية وإيمانية، تتعلق بمساعدة الفقراء والمحتاجين، أو تخدم أجندة سياسية أو تهدف لإيجاد علاقة زبائنية مع الجمهور، فقد سمحت للحركة بالوجود في قلب المجتمع، والاقتراب من مشكلاته واحتياجاته، والعمل على حلها والاستجابة لها على طريقتها الخاصة، كما أنه أوجد صورة إيجابية عن الجماعة وأفرادها، باعتبارهم جزءا رئيسيا من النسيج المجتمعي، يعملون لخدمة المواطنين وتحقيق مصالحهم. كما نجحت الجماعة في إيجاد روح تطوّعية لدى شبابٍ كثيرين ساعدت في منعهم من الانخراط في صفوف الجماعات الراديكالية العنيفة.
أما المجال السياسي، فقد فشلت فيه الجماعة فشلاً ذريعاً منذ دخول حسن البنا الانتخابات البرلمانية أوائل الأربعينيات، وخروجها منها بعد الاتفاق مع رئيس الحكومة (المصرية) آنذاك، مصطفى النحاس، على السماح للجماعة بالدعوة لأفكارها، ونشر دعوتها، وتوسيع تنظيمها في أرجاء القطر المصري، وهو ما حدث طوال الأربعينيات، حين وصل عدد أعضاء الجماعة إلى نحو ربع مليون شخص، بحسب وثائق عديدة. وكان قرار الجماعة الانخراط في المجال السياسي، أواخر الثلاثينيات، بمثابة انتقال مفاجئ من الدعوي إلى السياسي، من دون استعداد أو دراسة متأنية لنتائج هذا الانتقال وتداعياته. ومن دون الخوض في التاريخ السياسي المعروف للجماعة، لا يمكن إغفال التأثير الكبير للنشاط السياسي لها على المجالات الثلاثة الأخرى (الدعوة والتربية والعمل الخيري)، والتي دفعت، ولا تزال، فاتورة وثمن أخطائه. أما عن أسباب الفشل السياسي المتكرر للإخوان، فلهذا حديثٌ آخر.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".