الجولان ثم الأرض الفلسطينية هديّة للاحتلال!

الجولان ثم الأرض الفلسطينية هديّة للاحتلال!

30 مارس 2019
+ الخط -
لطالما وصفت سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الداخلية والخارجية، بأنها تنسجم مع مواهبه وخبراته الأصلية رجل أعمال، وأنها تفترق بذلك عن عالم السياسة الذي يجمع بين المصالح والمبادئ، غير أن هذا الوصف يظلم عالم رجال الأعمال وسيداته، ففي هذا العالم متّسع للأخلاق والذكاء الإنساني والاجتماعي. والأصح أن الرجل يمارس السياسة وفق منطق المضاربات الفجة، وألاعيب السوق السوداء، وازدراء المتضرّرين باحتسابهم أغبياء. وحين يقول ترامب إنه "آن الأوان لتغيير السياسة الأميركية: "في معرض تسويغ قراراته الجنونية، فهو يتطلع، في واقع الأمر، إلى تفريغ السياسة من أي مضمون أخلاقي ومحتوى "فكري" وتراكم تاريخي، وحتى من أية مهنية، والانحدار بها إلى براعة اقتناص الفرص، وتصفية المنافسين، وعبادة الربح السريع الخالص.
كان مشهدا مفزعا ومشيناً، ذلك الذي ظهر فيه ترامب، ومن خلفه أركان إدارته، وهو يوقّع، يوم 25 مارس/ آذار الجاري، شهادة باسم إدارة بلده، تمنح الاعتراف بحق السيادة لمن استولى بالسطو المسلح على أرض الآخرين (هضبة الجولان السورية)، فيما بدا رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وهو يكاد لا يصدّق ما تراه عيناه وتسمعه أذناه، من فرط الدهشة والانتشاء، إذ لم يتوان ساكن البيت الأبيض عن منح ضيفه المحظوظ أكثر مما ينشده هذا الضيف، وعلى طريقة من يمنح نديمه في الحانة أعطياتٍ سخية غير متوقعة، تبهر النديم، وتجعله يمنح المضيف كأساً.. وهو ما حدث بالفعل، حينما دعا نتنياهو، بالمناسبة، ترامب، 
لتناول كأس من نبيذ الجولان المسروق.
المشهد مُفزع، لأن بطله ينتقم من سابقيه من الرؤساء الأميركيين الذين التزموا بحد أدنى من موجبات السياسة للدولة العظمى، باحترام الشرعية الدولية وأبسط مقتضيات القانون الدولي، نتيجة الإدراك أنه بغير هذا الالتزام، فإن إدارات بلادهم تفقد الاحترام لدى المجتمع الدولي، وتثير أعمق الشكوك لدى الحلفاء والشركاء إزاء سياسات القوة العظمى. وقد شاء الرئيس ترامب أن يتخلى عن أفضل ما في السياسة الأميركية، وليس عن أي شيء آخر، متمترسا بمنطق الحرب الأهلية الداخلية في النظر إلى الآخرين، الحرب السابقة على استواء أميركا قوةً عظمى، تشارك في الصراعات، وتسعى إلى بسط النفوذ. ولكن مع احترام مبادى القانون الدولي (ولو في الشكل أحياناً)، والالتزام بالاتفاقيات الدولية، والانتماء إلى الأمم المتحدة ومواثيقها، وهي نادي الأمم والمحفل العالمي وبيت البشرية.
وقد بدا المشهد مُشينا، إذ ظهر الرجل السبعيني أسيراً لنزعته المفرطة في الاختلاف، أيا كان ثمن الاختلاف، وبصرف النظر عن مضمونه. وهي نزعةٌ تتصف بها حالات المراهقة العدوانية، وذلك بالسعي إلى انتزاع الإعجاب وإثارة الانبهار، بأكثر الوسائل فجاجة، وأبعدها عن الرشد والنضج.
لم يكن لدى الرجل ما يسوّغ به قراره الأعمى سوى ما يتسم به صاحبه من سلوكٍ لا سياسي، يجمع بين النزق والفردية والمبالغة في الشخصنة، بمنح ضيفه القائم على الاحتلال صكّ تمليكٍ في استعادة شائهة بعد مضي أزيد من قرن لمنطق وزير المستعمرات البريطاني، آرثر جيمس بلفور، الذي أعطى عام 1917 ما لا يملكه (أرض فلسطين) إلى من لا يستحقه (الحركة الصهيونية)، مع تحيينٍ يقرن هذه الأعطية بتمكين القائم على الاحتلال من فرصة الفوز في انتخاباتٍ قريبة تشهدها الدولة العبرية، وقد حظي ممثل الاحتلال بشهادة اعترافٍ بحق السيادة على أرض سورية مسلوبة، تبعد ستين كيلومتراً عن العاصمة دمشق.
أما المحاججة الأميركية (كما تبدت الأربعاء 27 مارس/ آذار في مجلس الأمن، عبر السفير جوناثان كوهين) بخطر استيلاء إيران على الهضبة المحتلة، فلا تعدو أن تكون سخرية بليدة، إذ، وفق هذا المنطق الأجوف، فإن لأميركا إجازة إعلان سيادة إسرائيلية على سورية بكاملها، بحجة وجود الخطر الإيراني على الأرض السورية جميعها، بينما منطق القانون الدولي يقضي بأن يتمتع الشعب السوري بسيادته على وطنه، ورفض أية قوة أمر واقع أجنبية. علما أن الاحتلال الإسرائيلي سبق أن أعلن عن سيادته المزعومة على الجولان السورية منذ العام 1981، إذ أقر الكنيست الإسرائيلي تشريعا يطبق ما سماه "القانون والاختصاص القضائي والإدارة" على الجولان، وضم الأراضي، وحيث لم يكن هناك من وجودٍ للنظام الإيراني على الأرض السورية..
وقد بلغت الفانتازيا السياسية ذروة أخرى، مع تصريح وزير الخارجية، مايك بومبيو، في جلسة للكونغرس، الأربعاء 27 مارس/ آذار، أن قرار إدارة ترامب الاعتراف بسيادة الاحتلال على
 هضبة الجولان "سيساعد في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك بإزالة الغموض"!. وبهذا، فإن النظرة "الفلسفية" لأركان إدارة ترامب تفيد بأن العائق الذي ظل يقف أمام السلام هو الغموض، وليس الاستيلاء على أرض الغير وإنكار حقوقهم، وازدراء قرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة. والغموض المقصود في إشارة بومبيو، والذي سوف تتم إزالته وإحلال الوضوح محله، هو نوايا الاحتلال، ونوايا الحليف والشريك الحالي للاحتلال، إدارة ترامب، فما تم احتلاله سوف يخضع لسيادة الاحتلال، والإدارة المذكورة تبارك جهارا نهارا شرعنة اللصوصية في الجولان والأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يساعد، حسب رئيس الدبلوماسية الأميركية، في إحلال السلام الفلسطيني الإسرائيلي. وبكلمات أكثر وضوحا، فإن نموذج الجولان سوف يتم اعتماده وتعميمه على جميع الأراضي المحتلة.
ونظرا إلى واقع التزامن، وبملاحظة الطرف المستفيد، لا يأتي المرء جديدا بوضع هذا "التطور" في سياق صفقة القرن المزمعة، وهي من أغرب الصفقات، إذ يتم تنفيذها قبل الإعلان عنها، وقبل مصادقة الأطراف عليها، وتلك هي الحصة السورية من الصفقة التي دبُّرت في ليل، بما يجعلها حقا صفقة سوداء، أبرمها طرفٌ دولي منفرد، مع طرف واحد هو المعتدي. ولهذا نأى اصحاب الصفقة عن وصفها "خطة" أو "مشروعا" أو "خريطة طريق"، وكما يتم عادة وصف المبادرات السياسية التي تروم معالجة معضلةٍ ما.