مخاض إعلامي جزائري أم مزاج عابر؟

مخاض إعلامي جزائري أم مزاج عابر؟

27 مارس 2019

ترشح بوتفليقة للرئاسة في صخيفة الخبر الحزائرية (11/2/2019/فرانس برس)

+ الخط -
هل هي ثورة أطلقها الإعلام الرسمي الجزائري ضد الإملاءات السياسية، أم مجرد هبّة عابرة؟ هل هي مبادرة تقتصر على أصواتٍ كانت صامتة، أم أن هذه الاعتراضات التي وصلت إلى حد استقالات بعض الوجوه الصحافية المعروفة، أو تلك في مواقع المسؤولية الإدارية، مجرد سيناريو مطلوب له أن يتحقق لإقالة هؤلاء من مناصبهم؟ أين كانت هذه الأصوات، حينما كان الإعلام الرسمي يمارس الرقابة الذاتية، من اختيار الموضوعات إلى اختيار الضيوف، خوفا من خرق الخطوط الحمراء؟ شكلت البيانات الاحتجاجية التي أصدرتها مجموعة من الصحافيين في الإعلام الرسمي مفاجأة، لتحدّيها تقاليد الإنتاج التي اتبعها وكرسها هؤلاء الصحافيون أعواما من دون مراجعة. ماذا يجري اليوم داخل أسوار هذه القلعة المغلقة، وداخل الإعلام الجزائري بتنويعاته وتناقضاته؟
أثار الحراك الشعبي الجزائري النقاش بشأن مكانة الإعلام المحلي في مقاربة قضايا مجتمعه، وهو نقاش أساسي للتغيير. يقدم الإعلام الجزائري مشهدا فريدا في المنطقة، لكثرة تناقضاته وتعقدها، ما يجعل منه منبرا للتغيير وللرجعية في آن. لم يكن الوصول إلى الإعلام الرسمي، قبل عامين لدى قيامي ببحثي الميداني في الجزائر العاصمة، أمرا سهلا. الدخول إلى هذه القلعة المغلقة رهن بسلسلة من الإجراءات المعقدة، حيث الحوار مع مجموعة من الصحافيين المنتقين على أساس "الثقة" (بينهم) يدور في فلك الخوف من رقابة الأخ الأكبر وكاميراته، فضلا عن رقابة الزملاء المتنصتين (أو على الأقل هذا ما يخيل لمحاوري) المتربصين لأي "اختراق من الخارج". زيارتي الوكالة الرسمية للأنباء (بادرت على ما يبدو إلى نشر خبر عن الحراك 
الشعبي ومطالبه قبل غيرها) لم تكن أكثر سهولة، إذ أثارت أسئلتي واستخدامي تعبير "الحرب الأهلية" ريبة بعضهم وحنق آخرين. في هذا العالم المغلق على نفسه، يقتصر معنى العمل الصحافي على المواظبة على العمل الوظيفي، والتزام التعليمات مع بعض المبادرات في الموضوعات التي لا تثير جدلا، إلى أن تصبح مثيرة للجدل، فيطويها الصمت مجددا.
حنق الصحافيين القلة الذين التقيت بهم داخل أسوار هذه القلعة من ظروف عملهم توازيه قدرتهم على التعايش معه، باعتباره واقعا لا مجال لتغييره، يؤمن لهم الثبات المعيشي، في حين يعاني زملاؤهم من الهشاشة الوظيفية، والتنقل المستمر بين وسيلة إعلامية خاصة وأخرى. يحاول هؤلاء التحايل على هذا الواقع، عبر تناول موضوعات جدلية، بطريقة غير مباشرة، تجعلهم يشعرون أنهم تجاوزوا الخطوط الحمر، ولو بالإيحاء، وتجاوزوا بذلك بعضا من رتابة يومياتهم. في الإعلام المرئي والمسموع الخاص الذي أطلق في العام 2012، بمبادرة من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لاحتواء ردات الفعل المحلية على موجة الربيع العربي، المجال ليس أرحب بكثير. هشاشة الوضع التنظيمي لهذه المحطات التي تعمل بترخيصٍ لا يزيد عن العام تجعلها، بالضرورة، في بيت الطاعة الرسمي. لا تسمح طبيعة تمويل هذه المحطات، ولا الولاءات التي تربط القائمين عليها بالسلطة أو جهات داخل السلطة، بممارسة عمل صحافي حقيقي. ساهمت المحطات التلفزيونية الفتية في توسيع إطار التنوع في المضمون الإعلامي وكسر رتابة الإعلام الرسمي، إلا أن هذا التنوع بقي صوريا، لا يخرح عن نطاق الخطاب الرسمي وتنويعاته، ويحترم خطوطه الحمراء.
تقدّم المحطات الفتية مشهدا مناقضا للإعلام المكتوب الذي كسب مشروعيةً شعبيةً لصموده في 
وجه الإرهاب وضغوط النظام، أو بعض هذا الإعلام بشكل أدق. إلى صغر أعمار الصحافيين العاملين في هذه المحطات، تضاف هشاشة ظروف عملهم، وقلة خبرتهم، ما يجعل من هذه المحطات مناخاتٍ ملائمةً لاتباع الإملاءات. في لقاءاتي مع عدد منهم، يقول هؤلاء الشبان إنهم يتبعون التعليمات في مجال العمل، ويعبرون عن آرائهم على صفحات "فيسبوك"، حيث يعارضون ما يقولونه في الصباح، إلى أن تأتي التعليمات من مسؤوليهم للجم تعبيرهم الحر. يقول بعض مسؤولي التحرير الـذين التقيت بهم إن الشبان "متحمسون"، ولا بد من لجم هـذا "التهوّر" في تحدي الخطوط الحمر.
كما الإعلام التقليدي في غالبية الدول العربية، تحكم ممارسات الصحافيين ما يسمونها "الظروف الخاصة" للبلاد، والتي تجعل احترام الخطوط الحمراء بمثابة الواجب الوطني. قد تكون "صحوة" الإعلام الجزائري ردة فعل على الاستياء العام من تجاهل الحراك الشعبي الواسع ضد العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، أو قد تكون مجرد هبّة مؤقتة، أو تحول تكتيكي، تحسبا لنتائج الحوار، أو محاولة لكسب مشاهدين. فاجأنا حراك الجزائر ولا يزال باتساعه وتنظيمه ووضوح شعاراته وراديكاليتها، وكأنه استفاد من حراك الربيع العربي بنجاحاته القليلة وتعثراته الكثيرة. ولعل الإعلام الجزائري، في تحركه المتأخر والمتفاوت، قد يفاجئنا أيضا بتجربة جديدة.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.