إسرائيل أيضاً وأيضاً

إسرائيل أيضاً وأيضاً

25 مارس 2019
+ الخط -
يذكّرنا تقريرٌ مهمٌ نشره، أخيرا، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) بحاجتنا، نحن العرب، إلى وجوب أن نعرف إسرائيل جيدا، أكثر من السطحيّ الظاهر والذائع المبذول عنها. هذا ليس كافيا. التقرير عن الرقابة العسكرية في دولة الاحتلال على الأخبار والمواد الصحافية، ويفيد بأن هذه الرقابة تدخلت، في عام 2018، جزئيا في 2712 خبرا، ومنعت نشر 363 خبرا. ويوضح أن هذا أزيد مما فعلته الرقابة في عام 2017 (بـ625 جزئيا، وبـ92 شطبا ومنعا من النشر). ويستطرد التقرير في مقارناتٍ مفصلة، فيعرّفنا بأن تدخلات الرقابة العسكرية كانت في 2014 الأعلى (بسبب العدوان على قطاع غزة في صيف ذلك العام؟). والمهم أن نعرف أن أية وسيلة إعلامية إسرائيلية مُلزمَةٌ بأن تقدّم لهذه الرقابة أي مادةٍ صحافية قد تكون متعلقة ب"الأمن القومي"، وهذا مفهومٌ واسع، يشمل عدة قضايا ومجالات، منها أنشطة الجيش والأجهزة الأمنية والاعتقالات الإدارية، وأيضا العلاقات الخارجية للدولة، وكذلك "الحكم العسكري" في المناطق الفلسطينية. 
ما الذي يعنيه هذا؟ لا يكفي القول إن إسرائيل، في جوهرها ومضمونها، كيانٌ عسكري، فهذا ينبغي أن يظل معلوما، سواء نشر "مدار" ما نشره أو لم يفعل. ولكن أيضا أن يتخفّف مثقفون عربٌ بين ظهرانينا من ولعٍ بالديمقراطية الإسرائيلية والحريات فيها، فما هكذا تورَد الإبل، ولا تورَد بالانبهار من حبس رئيس وزراء سابقٍ ثبت اتهامُه بالفساد، اسمُه إيهود أولمرت، ونشر اتهاماتٍ لرئيس وزراء في موقعه، اسمُه بنيامين نتنياهو، بالفساد أيضا، وإنما تورَد الإبل بالنظر في النزوع إلى التوحش والفاشية، المقيم في هذه الدولة التي أقيمت بطرد شعبٍ وتهجيرِِه من أرضه. هذا هو الأساس، وليس أي أمرٍ آخر. ولأن هذا أصل الأصول ومظانّها، فإن حريات التعبير التي تحوزُها صحيفة هآرتس (وغيرها) لا يليق أن تصير مبعث إعجابٍ، وأحيانا مبعث إعجابٍ كثير (كما في حالة المعلق اللبناني، جهاد الزين، بين أمثلةٍ عربيةٍ غير قليلة). ووجودُ جهاز رقابةٍ عسكريةٍ يجيز هذا الخبر أو يمنع نشره، أو يعدّل فيه (!)، واحدٌ من مظاهر عديدة، يُسعف التأشيرُ إليها في معرفة إسرائيل كما يجب أن تُعرَف.
وبحسب تقرير "مدار"، سجّل عدد المواد الصحافية التي قدّمتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، في 2018، إلى الرقابة العسكرية، مسبقا قبل النشر، انخفاضا كبيرا، وصل إلى الحد الأدنى في السنوات الثماني الماضية (10938 مادة). والمرجّح أنه في محلّه اجتهادُ المركز البحثي المرموق، أن هذا الانخفاض التدريجي، مصحوبا مع الارتفاع المستمر في عدد المواد التي قرّرت الرقابة العسكرية شطبَها وحظر نشرها، دليلان على أن وسائل الإعلام الإسرائيلية "تطوّر، ذاتيا، مهاراتٍ لافتةً في عملية تحديد المواضيع التي يمكن أن تثير حساسية الرقابة العسكرية واهتمامها..". ولمّا كانت إسرائيل تُباشر، يوميا، أنشطةً عسكريةً وأمنيةً، في اعتداءات وجرائم قصف واغتيال وغيرها، وأيضا في عملياتٍ استخباريةٍ، في فلسطين وسورية ولبنان و...، فإن المعطيات التي اشتمل عليها تقرير "مدار" تبدو متوقعة.
تُرى، ما هي موضوعات الكتب التي دسّت الرقابة العسكرية في إسرائيل أنفها فيها؟ من يدري، وقد عرفنا أن هذه الرقابة تدخلت بشطبٍ وتعديلٍ في 49 كتابا من بين 83 قُدِّمت إليها، في عام 2018. وفي العام السابق (2017)، تدخلت في 53 كتابا من بين 84 قدّمت إليها، وأجازت نشر 31 كتابا من دون تدخل.. ما الذي يعنيه هذا؟ لا يجوز، إذن، أن تصنّف إسرائيل دولةً أوروبيةً على صعيد حريات التعبير، من الأنسب (والعلمي ربما؟) أن تتشابه مع دولٍ عالمثالثية، من معالم التخلف فيها اتّساع الرقابات فيها، ومنها العسكرية، على كتبٍ وأخبارٍ وصحفٍ وتلفزات، في زمن الإنترنت وشساعة قنوات المعرفة. واسترسالا، لا تصير في محلّها أبدا المدائح الباهظة التي يخلعها بعضُنا على "الحرية التي بلا سقوف" في إسرائيل.. الحرية التي ما كان لنا، لولا تقرير مركز مدار، أن نعرف مجدّدا أن أرطال الزيف فيها ثقيلة، وإنْ قرأنا فائضا من الشرشحة لنتنياهو، ووزرائه وحزبه، في "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" ومثيلاتهما.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.