تونس... جراح الاستقلال والذاكرة السوية

تونس... جراح الاستقلال والذاكرة السوية

24 مارس 2019
+ الخط -
يمثل الاحتفاء بالأعياد الوطنية إحدى الشعائر السياسية الحديثة التي ابتكرتها الدولة الوطنية، والتي تخلصت، بموجبها، تدريجياً من الاحتفاء بالطقوس الدينية أو الأحداث الشخصية المرتبطة بسيرة الملوك والأباطرة فحسب، لتصبح الأعياد، في جلها، مدنية، ما يدعم مشاعر الهوية الوطنية المشتركة، وتغذية الذاكرة الجماعية بأحداث تاريخية موحدة للجماعة الوطنية. تمارس الأنظمة السياسية في ذلك ما تسمى سياسات الذاكرة، إذ لم تخل هذه السياسات، حتى في معظم الأنظمة الديموقراطية، من انتقاء وتوظيف، وفقاً للثقافة السياسية المتبعة والسياقات. لذلك تختفي أعياد وتُضاف أخرى، ويظل بعضها قاراً وثابتاً، غير أن اللافت للانتباه أن استقلال تونس لم يثر جدلاً بشأن حيثياته والتباساته، كالذي أثاره بعد الثورة، وتحديداً خلال السنة المنصرمة، لأسباب عديدة، لعل أهمها:
- حرية التعبير التي جعلت النقاش العمومي متاحاً للمواطنين في جميع المواضيع، من دون ممنوعات، إذ ما كان لهم، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، أن يخوضوا في هذه المسائل، لولا مناخ الحريات التي منحته الثورة للجميع، بمن فيهم لخصومها. يكتب المؤرخ، جاك لوغوف، في كتابه "التاريخ والذاكرة" أن ذلك "يشكل علامة على دمقرطة الذاكرة والنزوع إلى تجنب فرضها فرضاً على الجماعة الوطنية". وهذا النقاش، الحاد أحياناً، بشأن
 ملابسات الاستقلال وحيثياته علامة على دمقرطة الذاكرة الوطنية.
- صراعات الحاضر بكل كثافته، وهي مركبة ومترابطة، لا علاقة لها حقيقة بالاستقلال، وأن تعود إليه وتستثمره لإيجاد نوع من الشرعيات والتسويغات التاريخية لحقائق اليوم، وليس لحقائق الأمس. ويبحث بعضهم لهذه الصراعات عن امتدادات: صراعات العروبيين مع الفرنكوفونيين، الحداثيين مع التقليديين، النظام القديم مع النظام الجديد، وكلها تتغذّى من صراعات أخرى، لا علاقة بحدث الاستقلال. غدا الاستقلال في هذا كله إحدى مواد الصراعات وأدواته، من أجل تعزيز المواقف وتغذية الصراع. لقد تمت دعوة الماضي لحسم خلافات الحاضر، فلم يسلم الاستقلال من هذا التمشي، بل غدا مادة للصراع السياسي بين الفرقاء.
- صراعات العدالة الانتقالية التي غذت الصراع حول الاستقلال. ومعلوم أن قانون العدالة الانتقالية ينص على فترة زمنية، طويلة نسبياً، تمتد حسب الفصل 17 من القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية، بين الأول من شهر يوليو/ تموز 1955 إلى حين صدور هذا القانون، أي 31 ديسمبر/ كانون الأول 2013. وأعتقد أن الخلافات التي شقت مكونات الحركة الوطنية وأجنحتها (أنصار الزعيم صالح بن يوسف الذي تم اغتياله لاحقاً والبورقيبيين المتهمين بالتنكيل بهم تحديداً)، هذه الصراعات المبكرة كانت وراء اندلاع هذا الخلاف الحالي.
وإن عدنا الى الصراع الذي دار بشأن الاستقلال في السنوات الأخيرة التي تلت الثورة، لوجدنا أنه امتداد لثلاثة أنواع من الأطروحات، بقطع النظر عن تماسكها وصدقيتها وسلامتها، ولكنها تظل أطروحات متداولة عبر فضاءات الجدل العمومي، وهي تقريباً:
الأطروحات الإنكارية للاستقلال: كانت موجودة حتى قبل الثورة لدى فصائل عديدة من الحركة الطلابية القصووية التي كانت تنكر على البلاد استقلالها، وتعتبر الاستقلال مؤامرة، وأن البلاد ما زالت خاضعة لاستعمار، اقتصادي سياسي لدى اليسار، وثقافي سياسي لدى العروبيين والإسلاميين. لم يكن يثير يوم 20 مارس/ آذار (عيد الاستقلال) أي مشاعر اعتزاز ونخوة لدى شرائح عديدة من النخب السياسية المعارضة، ولم تصدر أي بينات ذات شأن تقريباً في 
هذا الصدد، بل على خلاف ذلك، كانت فصائل طلابية عديدة، وحتى شعبية، تعتبره ذكرى سيئة. لعل عديدين منا يذكرون هذا، وهم يستحضرون المعلقات الطلابية خلال الثمانينات وما قبلها تحديداً. تجد هذه التصورات القصووية في بعض أحداث الاستقلال، وألفاظ وثائق الاستقلال، حجة مزعومة لإنكار الاستقلال. كان بعضهم يطالب بخوض معارك استقلال ثانية. ولعل في أدبيات الثورة الوطنية الديموقراطية ما يدعم ذلك. تتكفل هذه الجهات بالكفاح والنضال من أجل وضع حد "لاستعمار البلاد" (أصبحت هذه الفصائل السياسية مكوناً حالياً للجبهة الشعبية، ضمن حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد). وقد تراجعت هذه الأطروحات كثيراً بعد الثورة، إذا يعتبر بعضها أن الثورة بمثابة استقلال ثان، وأنها متمم له، ولكن آخرين لا يزالون يؤمنون بأن المرحلة هي مرحلة تحرّر وطني.
الأطروحة الثانية تشكك في الاستقلال التام للبلاد، وترى فيها استقلالاً منقوصاً، لأسباب عديدة. وتحتفظ هذه الأطروحة بصدى تحفظات التيار اليوسفي وغيره من الاستقلال الذي ظل منقوصاً، فوثائق الاستقلال، أو ما خفي منها، منحت البلاد استقلالاً مشروطاً، أو منقوصاً، حسب رأيها. ويذكر هؤلاء أن مسائل الثروات والعلاقات الخارجية، ظلت تحت "وصاية فرنسا".
الأطروحة الثالثة: تعتقد أن استقلال تونس شكلي، وأن ذلك لا يعود إلى ما ورد في الوثائق، ولا أيضاً إلى ما تنازل عنه الحكام بمقتضى تلك الوثائق، بل بما تطوع بها هؤلاء، من خلال خيارات التبعية التي تبنوها في المجال الثقافي الاقتصادي، بحكم طبيعة النخب وأصولها الاجتماعية ومصادرها الفكرية. المهم في ذلك كيفية اشتغال ذاكرة الاستقلال وسياساتها، فالذاكرة الجماعية للشعوب هي من أشكال ترويض الزمن الطبيعي بكل خشونته ورعونته (أحداثه و تواريخه السيئة والسعيدة...). لذلك، سياسات الذاكرة هي الكفيلة بتدبر أمرها، حتى لا تغدو بديلا عن الحاضر. لا يتضخّم الماضي لدى الأمم إلا على حساب الماضي. الذاكرة السوية، أي النموذجية، هي التي لا تسرف في الماضي، ولا تستغرق في استحضار التفاصيل الحرفية فيه (يسميها تودروف الذاكرة الحرفية.). عادة ما تكون على حساب الحاضر بمشاغله. ولذلك، فإن الإغراق في مسائل تفاصيل الاستقلال بشكل حرفي هو تفويت في إمكانية دعمه حاضراً. معركة الاستقلال الحقيقي لا بد أن يكون لها صداها الآن في مزيد من دعم هذا الاستقلال، ومنحه أبعاداً حالية، لم يكن قادة الاستقلال يعونها آنذاك. الحريات الفردية 
والجماعية، المواطنة، الديموقراطية، الأمن الغذائي، الأمن المعلوماتي، شروط المنظمات المانحة، التكتلات الإقليمية، توحيد السياسات المغاربية... إلخ.
إذا كان واجب الذاكرة واجباً أخلاقياً يعيد استحضار أبطال الماضي ومجدهم، ويعيد للأحداث والذكريات عظمتها (الاستقلال في هذه الحالة)، حتى لا تسقط في النسيان، فإن واجب النسيان لا يقل نُبلاً وعظمة عن واجب الذاكرة، فالنسيان واجبٌ تدركه الشعوب من خلال الصفح والغفران والمصالحة. إعادة إذكاء صراعات الاستقلال وإحياء مفرداتها توقد جراحات الذاكرة، وتدعوها إلى افتراس الحاضر. وتحتاج ذاكرة الاستقلال إلى شيء من النسيان، وهو نسيانٌ لا يقل نبلاً عن التذكر. إنها الذاكرة المعتدلة أو السوية... وإذ مضى على استقلال تونس أكثر من 63 سنة، فإن معركة أخرى لا تزال مؤجلة، ولا تقل نبلاً عن معركة الاستقلال: معركة ترسيخ قيم الانتقال الديموقراطي، معركة التخلص من التبعية الاقتصادية المتنامية في السنوات الأخيرة، وأخيراً معركة السيادة الثقافية. ولهذا الصراع مثيله في مجتمعات عربية عديدة.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.