عندما تصبح العقوبات أمضى من الحرب

عندما تصبح العقوبات أمضى من الحرب

23 مارس 2019
+ الخط -
المواجهة المفتوحة، منذ نحو سنة، بين الولايات المتحدة وإيران على مدى المنطقة العربية الواسع، يبدو أنها بدأت تميل لصالح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي انسحب من الاتفاق النووي، وقرّر محاصرة نظام الملالي الذي يصنفه كـ"أكبر راعٍ للإرهاب في العالم"، فالعقوبات التي أعادت واشنطن فرضها على طهران، ثم شدّدتها، وأضافت إليها إجراءات أخرى، وتحديداً في مجالي التجارة وتصدير النفط، بدأت مفاعيلها تحفر عميقاً في قدرات "محور الممانعة" على الصمود وتشد الخناق على أطرافها، بدءاً بنظام الملالي رأس الهرم، مروراً بدمشق وانتهاء بحزب الله، رأس حربة طهران في المنطقة العربية، المدجج بالسلاح، وبمئات ملايين الدولارات الذي رفع الصوت لأول مرة مستغيثاً. فالهوبرات الدونكيشوتية، والمكابرة التي طبعت تعاطي السلطة الإيرانية مع العقوبات في النصف الأول من السنة، حل محلها الإرباك أولاً في مواجهة الاحتجاج الشعبي الذي راح يتمدّد من مدينة إلى أخرى، ثم تلاه في الأشهر الأخيرة اعتراف "الولي الفقيه" نفسه، وأعلى رأس الهرم في السلطة، علي خامنئي، بالضرر الذي بدأت تسببه العقوبات الاقتصادية على مجمل الاقتصاد الإيراني. ولحقه الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي وصف العقوبات بـ"الظالمة"، واعترف بأنها موجعة، وبأن إيران 
تواجه "أكبر ضغط وأصعب أزمة اقتصادية منذ أربعين عاماً"، أي منذ قيام الثورة الخمينية. 
نغّص ترامب على إيران فرحتها منذ توقيع الاتفاق النووي في صيف 2015 الذي عرف باتفاق (5 + 1)، أي الموقع مع أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين زائدة ألمانيا، والذي أفضى إلى أن تُرفع عنها عقوبات كانت تخضع لها منذ نحو عشر سنوات. وعلى الرغم من الخسائر المادية الهائلة التي مُنيت بها طهران، نتيجة انسحاب واشنطن، وعودة العقوبات بقوة خلال هذه الفترة، إلا أن النظام عاش ما يشبه حالاً من انفصام الشخصية الذي هو من خاصية كل الأنظمة الديكتاتورية، إذ ظل مصراً على توسيع نفوذه العسكري، من خلال غرقه في الحرب السورية، وتجنيد كل طاقاته البشرية والمادية، من أجل إبقاء الأسد واقفاً على رجليه. وفي الوقت عينه، ورغم التبجح بالقيام بتجارب لبناء وتطوير صواريخ باليستية بعيدة المدى، لم يتمكّن من استعمال الأقل تطوراً، وحتى البدائية منها، للرد على غارات إسرائيل التي راحت تستهدف مواقعه وقواعده وقواعد مليشيا حزب الله في سورية. ومع انتهاء مدة بعض الإعفاءات التي سمحت بها واشنطن لبعض الدول، ودخول عقوبات جديدة حيز التنفيذ في نهاية شهر مارس/ آذار الجاري، سيهبط معدل تصدير النفط الإيراني إلى أقل من مليون برميل في اليوم، بعد أن وصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين برميل. والمضحك المبكي في هذه المأساة أن مسؤولين إيرانيين بدأوا يطالبون الآن النظام السوري، المتهالك سياسياً واقتصادياً ونفوذاً، بتسديد ما عليه من ديون لإيران، وتبلغ مليارات الدولارات، بينما انخفض مستوى قيمة عملته إلى 300 في المائة مقارنة بالدولار. وقد بلغت مفاعيل العقوبات منحدراتٍ مأساوية دفعت الإيرانيين في بعض المناطق إلى الوقوف في الطابور ساعات من أجل الحصول على نصف كيلوغرام من اللحمة، أو الحجز للحصول عليه بعد أسبوعين!
وقد أعلن الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في احتفال ملتفز عن دقة وحراجة الوضع الاقتصادي والمالي لحزبه، والضيق الذي بدأ يعاني منه. وهذه هي المرة الأولى التي يعترف 
فيها نصرالله بالتأثير السلبي للعقوبات الأميركية، وهو أمر كان ينكره باستمرار، إلى درجة أنه دعا إلى إعادة تفعيل "هيئة دعم المقاومة" التي كان يتكل عليها في بدايات خروجه إلى العلن في أوائل الثمانينات. مشكلة حزب الله أنه مستهدف بشكل مباشر من الإدارة الأميركية، لذلك هو يعاني من حصار شديد، وعقوبات مزدوجة، تلك التي تطاوله مباشرة نتيجة الإجراءات التي اتخذتها واشنطن على الصعيد المصرفي والمالي في كل العالم، مانعة أي مصرف أو شركة أو طرف أو هيئة أو حتى أشخاص من أي تعامل مصرفي، أو إجراء أي تحويلات مالية مع الحزب. كما أنها وضعت قيوداً مشدّدة على المصارف اللبنانية، وفرضت رقابة مشددة على كل رجل أعمال تشتبه بأنه يقيم أي علاقة معه، واعتقلت من تتهمهم بممارسة تجارة المخدرات وتبييض الأموال لصالح حزب الله، وخصوصاً في دول أميركا اللاتينية. أما العقوبات غير المباشرة، فهي التي تطاول إيران في أكثر من مجال، وعلى أكثر من مستوى، وتنعكس سلباً على حزب الله، بسبب عدم قدرة طهران على الاستمرار في دعمه، وتوفير الأموال التي تغدق عليه منذ نحو ثلاثة عقود، ما مكّنه من بناء مؤسسات اقتصادية واجتماعية وتربوية وصحية في محافظات الجنوب والبقاع وبيروت، والالتزام بإعاشة آلاف من عائلات شهداء أو محتاجة، في مقابل انخراط أبنائها في منظمات الحزب الأمنية والعسكرية. وهذا ما اصطلح على تسميته "دويلة حزب الله". كل ذلك عدا عن العبء المالي والبشري الإضافي الذي يتكبده الحزب من جراء انغماسه في الحرب السورية، دفاعاً عن نظام بشار الأسد، فالمعلومات عن بدء عملية شد الأحزمة والتقشف والتأخر في دفع المخصصات أصبحت على كل لسان، ناهيك عن تناقل أخبار عمن طالت يداه واغتنى من مسؤولين، وعن مشاريع وتجارات مشروعة وغير مشروعة أقامها آخرون طوال هذه السنوات.
وللتحصن والاستعداد لمواجهة الآتي من التطورات، انخرط نصرالله أكثر فأكثر في العملية السياسية الداخلية، وضغط في اتجاه قيام "حكومة صديقة" يطمئن لها، فكان له ما أراد. في 
المقابل، وللتعويض عن غياب أي هدف، أو عنوان سياسي مقنع، يتم تجييش الناس حوله، أطلق حزب الله حملة لمحاربة الفساد المتفشي في كل مفاصل الدولة، وعلى أعلى المستويات، وفي كل المرافق العامة تقريباً. ويشهد اللبنانيون، منذ أسابيع، تبادل السياسيين أقذع التهم بالفساد والصفقات المشبوهة وهدر المال العام، في البرلمان أمام الرأي العام، وعلى شاشات التلفزة، وفي وسائل الإعلام إلى درجةٍ لم يعد معها ممكناً التمييز بين من هو فاسد ومن ليس فاسداً. والأنكى أنه لم يتم حتى اليوم توقيف أحد أو حتى استدعاء أحد للتحقيق، ما خلا بعض صغار الموظفين. والسؤال الأهم الذي يطرحه كثيرون: هل حزب الله هو فعلاً غير متورّط في منظومة الفساد، لكي يستثني نفسه، أو يسمح لنفسه بشن حرب على الفساد؟ أم أن له منها غايات أخرى؟ هل لمشاركة الفاسدين مثلاً في تقاسم المشاريع والحصص التي رصدها (11 مليار دولار) المؤتمر الدولي (سيدر) في باريس الربيع الماضي لدعم لبنان وإصلاح اقتصاده وإدارة الدولة؟
في المقابل، يبقى السؤال المفصلي: هل سيستمر ترامب في مواجهة إيران ومحاصرتها، أم أنه يهدف إلى إضعافها، وجرها إلى مفاوضات جديدة من أجل تغيير شروط اللعبة؟ وهذا أمر لا يبدو أن الملالي المنهكين بعيدون عنه.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.