انحياز فرنسا الرسمية لبوتفليقة

انحياز فرنسا الرسمية لبوتفليقة

23 مارس 2019
+ الخط -
بعدما التزَمت الحذر حيال المسيرات الشعبية العارمة في الجزائر ضد ترشح الرئيس المنتهية ولايته عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة، والذي اعتبره بعضهم صمتاً، انحازت الحكومة الفرنسية لمعسكر النظام على حساب الشعب، ما أثار ويثير ردود فعل قوية، وانتقادات حادة، في أوساط الشعب المتظاهر، والمعارضة، ومختلف الجمعيات الأهلية والمهنية في الجزائر. على الرغم من أن وزير الخارجية الفرنسية جون- إيف لودريان هو أول من "حيا" قرار بوتفليقة العدول عن ترشحه، وإعلانه "إجراءات لتجديد النظام السياسي الجزائري"، إلا أن تصريح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، هو الذي أثار ويثير غضباً عارماً في أوساط الجزائريين. إذ تهاطلت عليه التنديدات والانتقادات، بسبب تغريدته المساندة لبوتفليقة. وعقب إعلان الأخير تمديد حكمه خارج أي إطار دستوري، بدعوى تنظيم ندوة وطنية، ثم انتخابات رئاسية، لكن من دون تحديد أي جدول زمني، صرح ماكرون في تغريدة يوم 12 مارس/ آذار 2019، قائلاً إن "قرار الرئيس بوتفليقة يفتح صفحة جديدة للديمقراطية الجزائرية". 
من المستعبد أن تكون هذه العبارة مجرّد زلة لسان، أو "زلة إبهام"، لأن دلالتها السياسية قوية، وتنم عن انحياز لا ريب فيه لنظام بوتفليقة ضد الشعب الرافض لبقائه. يُحيي الرئيس الفرنسي قرار بوتفليقة تمديد حكمه إلى أجل غير مسمّى، رغم أنف الشعب، منتهكاً حتى الدستور الذي وضعه على مقاسه، للبقاء في الحكم، وهو بذلك يستفز المتظاهرين الذين يطالبون برحيله. فهم يرفضون ترشحه لعهدة خامسة، وتمديد ولايته الحالية، وإذ به يمدّد لنفسه خارج القانون. وهنا تكمن المشكلة الأولى في تصريح ماكرون، فهل تمديد بوتفليقة حكمه (أو تمديد محيط حكمه) 
قرار يفتح صفحة جديدة؟ إن كان الأمر كذلك، فالصفحة الوحيدة التي يفتحها هي تدعيم التسلطية والحكم خارج الأطر الدستورية، بغض النظر عن عدم ديمقراطيتها، لأنها وُضعت أصلاً على المقاس. المشكلة الثانية في التصريح عبارة "الديمقراطية الجزائرية". لو كانت هناك "ديمقراطية جزائرية" لما تظاهر ويتظاهر الجزائريون للمطالبة بها، في مسيرات ضخمة في كل ربوع الوطن، تذكّرنا بمسيرات الاحتفال بالاستقلال. إذن، في هذه العبارة استخفاف بالمتظاهرين الذين هم أدرى بطبيعة الحكم في بلادهم.
ويُعد تصريح ماكرون، في ندوة صحافية من جيبوتي، في اليوم نفسه، بشأن ما يحدث في الجزائر، تأكيداً واضحاً لما ورد في تغريدته، حيث أشاد ماكرون، في هذه الندوة الصحافية، بسلمية التظاهرات، وبإرادة المتظاهرين في التغيير، وبحرفية قوى الأمن، لكن أهم مقطع في تصريحه كان: "أشيد بقرار الرئيس بوتفليقة الذي يفتح صفحةً جديدةً في تطوير الديمقراطية الجزائرية". ويعود إلى الجزائر أن تضمن "في أجل معقول انعقاد هذه الندوة (...) وانتقالا بفترة معقولة". قرأ ماكرون تصريحه بشأن الجزائر، ما يعني أن المفردات تم انتقاؤها بحذر شديد، وبالتالي، لا يمكن اعتبار الموقف الذي تعبر عنه زلة لسان، أو خطأ أو خلطا بين نسخ الخطاب، فالكلام الذي تفوه به قرأه، فهو يزكّي بموجبه تمديد بوتفليقة حكمه.
بسبب الشجب الواسع الذي أثارته تصريحاته، حاول ماكرون ووزيره للشؤون الخارجية التأكيد على عدم نية فرنسا التدخل في الشأن الجزائري، وعلى أن القرار بيد الشعب الجزائري، وأن فرنسا سترافق العملية الانتقالية، إلا أن هذا الكلام لم يقنع أحداً. وسيبقى الموقف الفرنسي عالقاً في أذهان الجزائريين، ليس فقط لأن فرنسا الرسمية انحازت بموجبه لحكم بوتفليقة ضد المتظاهرين السلميين، المطالبين برحيله، ورحيل نظامه، بل أيضاً لأنهم يعتبرونه تدخلاً في الشأن الجزائري. فضلاً عن أنه يغلّب المصالح الفرنسية الآنية على مبادئها الديمقراطية، ومصالحها بعيدة المدى، فإن هذا الموقف يعبر عن تناقضٍ صارخ: من جهةٍ تتخوف فرنسا من الهجرة السرية المستمرة، ومن انعكاسات انسداد الوضع في الجزائر، ووصول جحافل من المهاجرين إلى أراضيها. ومن جهة أخرى، تتخذ موفقاً قد يساهم في إيجاد الظروف الضرورية لحدوث ما كانت تتخوف منه.
يمكن أن نعتبر موقف فرنسا دلالة على تخوف من انزلاق الوضع في الجزائر، وبالتالي فهي تفضل تغييراً تدريجياً على أي تطوراتٍ سريعةٍ تأتي على استقرار الجزائر والمنطقة على حد السواء، وما لذلك من انعكاساتٍ على مصالحها. لكن حتى لو تفهمنا هذا المنطق الواقعي، فإن هناك خللاً في التصور، وفي كيفية حماية المصالح الفرنسية، فالانحياز لسلطة مرفوضة شعبياً مشكلة بحد ذاته. فضلاً عن ذلك، فإن هذا الطرف الحاكم مدّد حكمه عنوة. ما يعني، في نهاية المطاف، أن فرنسا تزكّي بقاء بوتفليقة في الحكم، مهما كانت الوسائل (ولاية خامسة عبر انتخابات محسومة النتائج سلفاً، أو تمديدا خارج الأطر الدستورية). من جهة أخرى، لو كان موقف فرنسا الرسمية هو الدفع نحو انتقال ديمقراطي تدريجي، لطالبت على الأقل بإشراك المعارضة وممثلي المجتمع المدني في إيجاد صيغةٍ توافقية، ولما زكّت استحواذ السلطة على 
كل شيء. بموقفها، تناقض فرنسا الرسمية تماماً الشعب الجزائري، فالأخير يريد انتخاباتٍ رئاسيةً حرة وتعددية بدون بوتفليقة (ونظامه)، بينما تزكّي فرنسا خياراً يقوم على بقاء بوتفليقة في الحكم من دون انتخابات، أي تدعيم التسلطية ذاتها التي ينتفض الجزائريون ضدها. إنه شرخٌ عميقٌ ستبقى آثاره قوية في العلاقات الجزائرية - الفرنسية مستقبلاً، بغض النظر عن مآلات الحراك الشعبي الحالي.
يعبر الموقف الفرنسي من التفاف حكم بوتفليقة على إرادة الشعب عن جدلية الشرعية المحلية (الشعبية) والشرعية الخارجية. والواضح أن بوتفليقة ومحيطه يراهنان على الثانية، أملاً في تعويض الأولى، بل وفي إسكاتها. وهذا ما يتضح من استدعاء شخصيتين جديدتين - قديمتين، لهما باع طويل في الدبلوماسية الدولية، وهما رمطان لعمامرة، وزير خارجية سابق ودبلوماسي عمل في هيئات الاتحاد الأفريقي، فضلاً عن تمثليه الجزائر في أميركا، والأخضر الإبراهيمي، وزير خارجية سابق ومبعوث الأمم المتحدة السابق في أكثر من بلد/أزمة. مهمتهما الحقيقية تسويق خيار التمديد خارج القانون، بدعوى تنظيم "الندوة الوطنية"، وإطلاق العملية الانتقالية، وبالتالي، بناء شرعية خارجية، عساها تعوّض غياب الشرعية الداخلية. وهذا ما تأكد مع الرحلات المكوكية للعمامرة بين بعض العواصم (روما، موسكو، برلين...) سعياً إلى شرعنة خيار الحكم. والملاحظ أنه لم يبدأ زياراته من باريس، ما يعني أن الدعم الفرنسي لهذا الخيار قد حُسم سلفاً، كما تدل على ذلك تصريحات ماكرون. إنها محاولةٌ للاستقواء بالخارج لاستضعاف الداخل، وهي سابقةٌ في سلوك النظام الجزائري منذ الاستقلال.
إذا كان الجزائريون خرجوا في حشد شعبي، منقطع النظير، للمطالبة برحيل بوتفليقة، ولم يكترثوا إطلاقاً بتخويفهم بالعشرية السوداء المؤلمة، معلنين أمام الملأ نهاية الإذعان الاجتماعي، فإن مواقف القوى الخارجية لن تحيدهم عن مسارهم، فهي مرفوضة جملة وتفصيلاً. ومن ثم، سيُحسم الصراع بين الشرعيتين، الخارجية والداخلية، لا محال لصالح الشرعية المحلية، الشعبية. إنها مسألة وقت، وفي تاريخ الشعوب عبرة لمن يفكّر.