عن دعوات المقاومة في مصر.. بالصفير

عن دعوات المقاومة في مصر.. بالصفير

22 مارس 2019
+ الخط -
جحافل من قوات الأمن والملثّمين في معظم الميادين (في مصر) في استنفار.. كأن الحرب على الأبواب، وكأن الأعداء على أبواب القاهرة، ثم بدأت الأنباء تتواتر عن حملات اعتقالات عشوائية في محيط وسط القاهرة، ومن على مقاه معروفة بتجمعات النشطاء الشباب، بالإضافة إلى الأنباء عن ضربات استباقية، وحملة اعتقال نشطاء ومغرّدين كتبوا عبارات غاضبة على "فيسبوك" و"تويتر". عشرات الشباب محتجزون في عدة أقسام شرطة في القاهرة والمحافظات، أخبار عن تعرّض معظمهم للتعذيب والمعاملة السيئة، وفي اليوم اللاحق تم إخلاء سبيل بعضهم، بينما تم عرض كثيرين على نيابة أمن الدولة، والتي تقوم بدورها بالحبس الأوتوماتيكي، من دون تحقيق، بعد صدور الأوامر، أو ما يطلق عليها التحريات.
فوجئت بهذا الكمّ من الاستنفار الأمني، وتلك الإجراءات التي تدل على توتر شديد، وخوف، لدى المنظومة الحاكمة، من شيء ما. قبل ذلك بأيام، استوقفني ضابط شرطة ليسألني: هل تخططون فعلا لتنظيم مظاهرات غدا؟ تعجبت وقتها من السؤال، فمن الذي يستطيع تنظيم أي تظاهرات في هذه الأيام؟ أو حتى تنظيم أي نشاطٍ يحمل صبغة المعارضة، حتى ولو ندوة بسيطة بدون التعرّض لضربات أمنية مسبقة؟ زال هذا التعجب، عندما علمت أنه كانت هناك فعلا تحركات شبابية تلقائية وعشوائية، بدون تنظيم مسبق من أية كيانات أو مجموعات معروفة، وهنا فعلا على السلطات والأجهزة الأمنية أن تقلق.
كانت مشاهد حزينة ومؤلمة، التي شاهدناها جميعا على الفضائيات وموقع يوتيوب. هؤلاء 
المسافرون الذين اشتعلت ملابسهم، وهم يحاولون إنقاذ أنفسهم، أو مشاهد الجثث المتفحمة، حادثة أليمة ناتجة عن الفشل والترهل الإداري، والفساد الذي يحكم السكة الحديد، وكل القطاعات الإدارية في الدولة. أدت تلك الحادثة إلى موجة من الغضب الشعبي المكتوم، وانتشرت قصص وروايات وتكهنات كثيرة في غياب معلومة رسمية. تبعت ذلك تحرّكات عشوائية وتلقائية هنا وهناك. واستجاب بعضهم إلى دعوة أصدرها الإعلامي معتز مطر، بالاحتجاج عن طريق الصفير، لكن الشرطة تعاملت بعنف مع أي احتمال لحدوثٍ أي شيء، فكان ذلك الاستنفار الأمني والقبض على عشرات الشباب عشوائيا، وتعليمات لوسائل الإعلام المصرية بمهاجمة دعوة معتز مطر، والسخرية منها، ثم ملاحقة عائلته في مصر.
كانت المفاجأة تلك التحركات التلقائية لأعداد من الشباب، تحرّكات قد تكون صغيرة وعشوائية، وليست منسوبة لإحدى المجموعات المعروفة، ولكن تلك التحرّكات تعطي رسالة أنه لا يزال هناك أمل، أجيال جديدة قد تكون سمعت عن ثورة 25 يناير، وتحاول استكمال الحلم، ولكن النظام لا يتسامح مع أي دعوةٍ مهما كانت بسيطة، أو محدودة التأثير، والأجهزة التي تحكم مصر تؤمن بأن مشكلة حسني مبارك الأساسية لم تكن الفساد ولا الإفساد ولا الاستبداد ولا الاحتكار ولا المحسوبية، بل كانت، من وجهة نظرهم، أنه أعطى بعض المساحة للمجموعات المعارضة، والتي تحرّكت من خلالها حتى أطاحت به بعد ثلاثين عاما.
يزداد الارتباك ورد الفعل الباطش والأحمق عندما تتواتر الأنباء عن التظاهرات المستمرة في الجزائر والسودان، خصوصا مع الانتصار الجزئي للحراك في الجزائر. يخافون في مصر من انتقال عدوى الثورات، مرة أخرى، كما حدث في 2011، فيما تعمل الأجهزة الأمنية بكامل طاقتها وكفاءتها، ليس لحماية أمن المواطن، ولا لضبط الشارع، ووقف البلطجة والانفلات، إنما لضمان أن يكون الاستفتاء المقبل على تعديلات في الدستور محكوما، ويظهر بصورة أن الشعب هو الذي يريد استمرار عبد الفتاح السيسي في الحكم، وأنه هو الذي سيضطر لقبول الإرادة الشعبية. جميع أقسام الشرطة في مصر تعمل على قدم وساق من أجل التجهيز لتعديل الدستور، والتمديد للسيسي في الحكم فترات أخرى بعد انتهاء فترته الحالية، يستخدمون الأسلوب القديم نفسه، المتعارف عليه، منذ عهد مبارك، تجنيد بعض البلطجية وقطاع الطرق، ويشترون ذمم بعض كبار التجار وكبار العائلات أو تهديدهم في حال الرفض، بالإضافة إلى السيارات التي تبيع السلع الغذائية بأقل من سعر السوق، وذلك كله من أجل حشد الجماهير لتأييد التعديلات الدستورية المرتقبة، وإظهارها بأنها رغبة جماهيرية، أو تحت ضغط الحشود المؤيدة.
هناك من يلوم الإعلامي، معتز مطر، على دعوته غير المدروسة من خارج مصر، والتي 
حُبس على أثرها عشرات الشباب الصغار بدون ذنب. وهناك من يرى أن الدعوة كانت ذكية، وتذكّر بمبادرات المقاومة السلمية، واستراتيجيات حرب اللاعنف التي نجحت في عهد مبارك، ونجحت، قبل ذلك في دول أميركا الجنوبية ودول شرق أوروبا. ولكن بشكل عام، يمكن القول إن ما حدث من تحرّكات تلقائية محدودة في الفترة الأخيرة يعطي مؤشرا ما إلى أنه لا تزال هناك حياة، وأنه على الرغم من الحصار والقمع لكل أشكال الحياة السياسية، وعلى الرغم من تعرض شباب كثيرين للحبس سنوات طويلة، بسبب تغريدةٍ معارضة هنا أو كاريكاتير ساخر هناك، وعلى الرغم من قمع وحصار الحركات والمجموعات التي اشتهرت قديما بإطلاق هذه الأفكار المبتكرة، مثل حركة 6 إبريل، لا يزال هناك قلب نابض في الجسد الميت. ولذلك أسباب الخوف عند بعضهم هي أسباب الأمل عند آخرين، أن تكون الانطلاقة يوما من كتل جديدة لا تخضع للحصار والمراقبة، فالمعارضة الحالية، بكل مكوناتها القديمة والشابة، تعاني جميعها من التخبط والتفكك وغياب القدرة على التخطيط السليم، عاجزة عن التغلب على الحصار، وابتكار أفكار جديدة، كما كانت تفعل الأجيال الشابة (انتميت إليها يوما)، ومن يتابع هذه الأيام أخبار اجتماعات بعض المجموعات القديمة وتحركاتها في الداخل والخارج يتعجب، ويحزن من كل هذا الكمّ من العجز وغياب الحيلة. ولا يختلف حال المصريين في الخارج عمّن هم في الداخل، بالإضافة إلى انتشار حالة من الإحباط والعدمية عند من كان شعلة من النشاط والإبداع وإنتاج المبادرات منذ سنوات. إنها أعراض ما بعد الهزيمة، ولكن بالطبع لا يمكن تجاهل المجهود الذي تبذله السلطات في الترهيب والترغيب والتفكيك والتشتيت.
وعلى الرغم من أنني من أنصار المشاركة والتصويت بـ لا في الإجراء المقبل، أو الاستفتاء الشكلي لتعديل الدستور، وعلى الرغم من أني أعلم جيدا أن تلك المنظومة والسلطة الحاكمة لا ترى طائلا الآن في أي حوار أو تفاوض أو مساعٍ للتهدئة، أو لعودة اللحمة الوطنية، ولا يعتبرون أن هناك أهمية لعودة الحياة السياسية في مصر، ولا يثقون بالسياسيين بشكل خاص، ولا المدنيين بصفة عامة، إلا أن كل تلك المحاولات السلمية ستؤدي يوما ما إلى شيء ما، حتى لو كانت ضعيفة المردود الآن. ولكن التاريخ يقول إن دوام الحال من المحال، ومعظم النقاط الفاصلة التي أحدثت تغيرا كبيرا في العالم جاءت فجأة مما هو غير متوقع.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017