تفوق العرق الأوروبي الأبيض إيديولوجيا إرهابية

تفوق العرق الأوروبي الأبيض إيديولوجيا إرهابية

22 مارس 2019
+ الخط -
لم تكن مجزرة المسجدين في مدينة كرايست تشيرتش في نيوزيلندا، بحق مصلين مسلمين مسالمين، يوم الجمعة الماضي، إلا تعبيرا جديدا عن تصاعد خطر اليمين المتطرّف، المؤمن بتفوق العرق الأوروبي الأبيض المسيحي، في المجتمعات الغربية. ولا يترك الإرهابي مرتكب الجريمة، الأسترالي برينتون تارانت، مجالا للتكهنات هنا، فهو أعلن، بكل وضوح، أن جريمته انطلقت من خلفيةٍ عنصريةٍ دينية، وأن دافعه هو كراهية الإسلام والمسلمين، استدعت تاريخا طويلا من الحزازات، حسب فهمه لها، بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، وبالتالي رفض أي وجود للإسلام أو معالمه أو أتباعه في الغرب. لكن، في السياق الأوسع، لا يمكن حصر غضب اليمين الغربي المتطرف وانكفائه إلى ملاذ الهوية العرقية الجزئية على حساب الهوية الوطنية الجامعة في العداء للإسلام والمسلمين، بل إنه غضب يطاول كل فئةٍ تقيم في دول الغرب، ولا تنتمي إلى العرق الأبيض الأوروبي المسيحي.
ليس أدل على ما سبق من أن يهودا غربيين بيضا، وأفارقة غربيين مسيحيين، كانوا أيضا، وما زالوا، ضحايا الإجرام العنصري نفسه. من ذلك مثلا، الهجوم الذي قام به عنصري أميركي أبيض متطرّف، العام الماضي، على كنيس يهودي، في مدينة بتسبرغ في ولاية بنسلفانيا، أفضى إلى مقتل 11 شخصا. وقبل ذلك هجوم عنصري أميركي أبيض آخر، عام 2015، على كنيسة مسيحية للأفارقة السود، في مدينة تشارلستون في ولاية ساوث كارولاينا، أدى إلى مقتل تسعة أشخاص. أبعد من ذلك، تطاول الكراهية التي يحملها كثيرون داخل حركات التفوق العنصري الأوروبي الأبيض بيضا من أصول أوروبية كذلك، ولكنهم يرفضون إيديولوجيا كراهيتهم وعنصريتهم. من ذلك مثلا، هجمات النرويج التي قام بها عنصري أبيض متطرّف عام 2011، ولقي فيها 77 شخصا مصرعهم، ومظاهرات النازيين الجدد في مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا الأميركية، عام 2018، وأدت إلى مقتل شخص.
إذاً، إيديولوجيا الكراهية التي يحملها اليمين الغربي المتطرّف، المؤمن بتفوق العرق المسيحي 
الأوروبي الأبيض، لا تفرّق بين أتباع دينٍ وآخر، ولا بين عرقٍ وآخر، فهم ضمن مقارباتها جميعهم يمثلون تهديدا وغزوا لمجتمعاتهم، وبالتالي ينبغي التصدّي لهم، ولو عبر العنف. وهي بذلك، أي هذه الإيديولوجيا، تمثل ظاهرة إرهابية في مضمونها، وهي لا تفرق عن إيديولوجية "داعش" في استهداف كل من يختلف معها ويرفضها. وعلى الرغم من أن ثمّة مؤشرات واضحة ودلائل دامغة على ما سبق، إلا أن بعضا من السياسيين، والمؤسسات الأمنية والإعلامية في الغرب، ما زالوا يصرّون على تبنّي معايير مزدوجة، حيث تجدهم يتحدّثون بتعميم فاضح عن "الإرهاب الإسلامي"، عندما يكون الجاني مسلما، ويشيطنون الإسلام كدين، والمسلمين كبشر، ويحاسبونهما بأفعال قلة مسيئة، من دون أي مراعاة لأخلاق وموضوعية. ولكن عندما يأتي الأمر إلى إرهاب البيض الأوروبيين المسيحيين العنصريين، تجد غالبية هؤلاء يتقمّصون الموضوعية الزائفة، فيتحدّثون عن "إرهابي أبيض"، أو عمل إرهابي معزول، ولكنهم لا يعمّمون، حيث ينبغي التعميم.
واحد من النماذج القميئة التي تجسد المنطق السابق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. يمثل "رمزا لإعادة انبعاث الهوية البيضاء"، حسبما كتب مجرم كرايست تشيرتش، برينتون تارانت، نفسه. إذاً، فهو نظر إلى ترامب كَمُلْهِمٍ لإيديولوجيا الكراهية التي دفعته إلى ارتكاب جريمته. وصراحة، حقَّ له ذلك، وذلك تماما كما ينظر إليه العنصريون مُلْهِماً في دول كثيرة في أوروبا، كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وأستراليا، وتماما كما يفعل اليمين المتطرّف في البرازيل. لقد جاء ترامب إلى الرئاسة محمولا، إلى حد كبير، باللعب على وتر مخاوف البيض من أصول أوروبية من خسارة أغلبيتهم وامتيازاتهم في الولايات المتحدة، وهي المخاوف نفسها التي يتشاطرها بيضٌ كثيرون مؤمنون بتفوقهم العرقي في دول غربية أخرى. المفارقة أن ترامب لا يخفي وجهه العنصري، أو على الأقل أنه يعجز عن ذلك، على الرغم من أنه ممثل بارع وكاذب محترف.
في إدانته مجزرة المسجدين المروعة في كرايست تشيرتش، تحاشى ترامب الإشارة إلى هوية الضحايا المسلمين، أو إظهار التعاطف مع مسلمي بلاده، القلقين من هجماتٍ مماثلة عليهم، وذلك على الرغم من أن رئيسة وزراء نيوزلندا، جاسيندا أردرن، حثته على ذلك. ترامب هذا يشير في العادة إلى هوية الضحايا عندما يكونون غير مسلمين. العام الماضي، وبعد الهجوم الإرهابي على المعبد اليهودي في بتسبرغ، تحدث ترامب عن العداء للسامية دافعا. وعندما قتل 28 مسيحيا قبطيا في مصر، عام 2017، في هجوم إرهابي آخر، شجب ترامب "ذبح المسيحيين بلا رحمة"، وشدّد على ضرورة وقف "سفك دماء المسيحيين". ولكن عندما يتعلق الأمر بهجمات إرهابية ضد المسلمين، يعجز الرجل عن إخفاء كراهيته المعلنة لهم ولدينهم، وهو الذي سبق له، كمرشح رئاسي، مهاجمة الإسلام غير مرة، وأعلن عداءه للمسلمين مرات ومرات، بل إن من أولى قراراته الرئاسية حظر سفر مواطني دول ذات أغلبية مسلمة إلى الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن ترامب دائما ما عيّر سلفه، باراك أوباما، وغريمته، هيلاري كلينتون، 
بتردّدهما في تسمية "الإرهاب الإسلامي" باسمه، فإنه رفض، بعد جريمة كرايست تشيرتش، أن يعترف بتصاعد خطر جماعات التفوق العرقي الأبيض في المجتمعات الغربية. واعتبر ذلك ظاهرة معزولة. المفارقة هنا أن وزارة الأمن الوطني الأميركي، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، أصدرا تحذيرا عام 2017، يؤكد أن خطر جماعات التفوق العرقي الأبيض يتصاعد بشكل كبير، وبأن أغلب الهجمات المحلية المتطرّفة ما بين 2000 - 2016، ارتكبتها جماعات بيضاء عنصرية متطرّفة. وفي تقرير آخر أصدرته رابطة مكافحة التشهير اليهودية الأميركية، فإن 71٪ من حالات القتل المرتبطة بالتطرّف في الولايات المتحدة بين 2008-2017 ارتكبها يمينيون بيض متطرفون. على الرغم من ذلك كله، يرى ترامب أن هذه ظاهرة معزولة، على الرغم من أن حقيقة موقفه معروفة، فهو نفسه من جادل العام الماضي بعد مظاهرات النازيين الجدد في مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا بأن ثمّة "أشخاصا طيبين بينهم". قال ذلك حين كانوا يهتفون بشعاراتٍ معادية للسامية، وبعد أن قتلوا أميركية بيضاء مسيحية، كانت من ضمن المحتجين على خطابهم الكريه!
باختصار، ما جرى في نيوزيلندا بحق مصلين مسلمين آمنين واحدة من مفاعيل الإسلاموفوبيا وضخ الكراهية ضد المسلمين وغيرهم في الغرب، ولا ينبغي أن نتردّد في وصف الجريمة عملا إرهابيا وراءه إيديولوجيا عنصرية متطرّفة وعنيفة، تستعدي كل من يختلف معها أو يرفضها.