ليلة رخيصة

ليلة رخيصة

20 مارس 2019

(ريم يسوف)

+ الخط -
أعلن زوجان من إشبيلية أنهما تبنيا "قرنبيطة"؛ لأنهما نباتيان، ولا يحتملان فكرة إنجاب طفل من لحم ودم، وذلك بعد محاولات عديدة، لأن رأس القرنبيط الأنثى قد وصل إليهما من اليابان.
فيما كان هذا الزوجان يرفضان فكرة إنجاب طفل، لأنهما نباتيان، وربما رأيا قسوةً في اقتحام الحيوان المنوي البويضة، وما ينجم عن ذلك من "إراقة للدماء"؛ فقرّرا ألا يحدث ذلك، ولذلك تبنيا هذا الكائن النباتي ليكون ابناً لهما. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة الحمقاء لاقت سخرية القراء من كل أنحاء العالم إلا أنها تستحق وقفة قصيرة، فهذان الزوجان النباتيان شعرا بالشفقة على كائنٍ من لحم ودم، فكيف لا نشعر نحن بالشفقة على كائناتٍ نأتي بها إلى الحياة، لأننا لا نجد شيئا غير ذلك لنفعله.
في قصته "أرخص ليالي" يجرنا يوسف إدريس إلى عالم إنسان فقير اسمه عبد الكريم، الرجل كثير العيال، يعاني من ظلم المجتمع، حتى اضطهاد صغار الحارة له، يشتم، وهو يخرج من المسجد بعد صلاة العشاء، الآباء والأمهات بصوت عال، لأنهم يتكاثرون كالقطط، ويلقون أولادهم في الأزقة، ليضايقوه ويجذبوا ملابسه، حتى كاد يقع على وجهه. وحين دخل بيته الضيق، رأى زوجته تغط في نومها بين كومةٍ من الأولاد متبايني الأعمار، وفكّر في أن يخرج من المكان، لكنه اكتشف أنه لا يملك قرشاً لكي يسهر ويرفّه عن نفسه، وحاول النوم فلم يستطع، ولم يجد أمامه حلا سوى لكز زوجته، وفرك قدميها حتى تستيقظ وتستجيب له فيضاجعها، وينسى تماما الآباء والأمهات الذين يتكاثرون من دون حساب، وهو يعلم أن مضاجعته زوجته، حلا وحيدا لملله وقلة وسائل الترفيه والهروب من فقره، ستنتج طفلا جديدا ينضم إلى هؤلاء النائمين فوق بعضهم بعضا، وسوف يرتع في الأزقة، شأن الصغار الذين ضايقوه قبل قليل.
يضعنا الكاتب في هذه القصة حول مشكلة كثرة إنجاب الفقراء خصوصا، وأنانية الآباء وإخضاعهم للأمهات، قليلات الحيلة المتعبات، وإن كانت هناك نسبة ليست قليلة منهن يرين في كثرة الإنجاب وسيلةً لربط الزوج لكي لا يفكر بالزواج من زوجة أخرى، ولكن هذه الوسيلة وسيلة للانتحار الذاتي؛ لأن الزوج، في النهاية، يترك عبء جيش الأطفال على الزوجة، ويغرق في ليالٍ رخيصة لكي ينسى، ولو مؤقتاً، واقعه.
يشير يوسف إدريس في قصته إلى الأطفال في الشوارع، وهم يرمزون إلى الجيل الضائع التائه الذي لم يفكر والداه قبل إنجابه للحياة، وعن مصيرهم المظلم؛ لأن من ينشأ في القاع يبقى في القاع غالبا، ما لم تنتشله طرق مشبوهة غير قويمة. وفي القصة إسقاطات سياسية واجتماعية لا زالت سارية. ولذلك نرى أن العائلات التي تباد عن بكرة أبيها بسبب الحروب المجنونة فقيرة وكثيرة العدد، وقليلا ما يكون القصف المجنون في مناطق سكن الأغنياء الذين قال عنهم أحد المفكرين إنهم قليلو الإنجاب، لأنهم فكّروا بالمال أولا، والعقلاء هم من يفكرون دائما بالحياة الهانئة، وليس بالزواج هدفا يطمح إليه الفقير ليزداد فقرا.
يوما بعد يوم، تطالعنا الإحصائيات المرعبة عن الزيادة السكانية في البلاد الفقيرة، وعن احتفالات الفقراء بقدوم المواليد مجهولي المستقبل، وفيما تتباهى نساء ثريات بقدرتهن على رعاية التوائم الثلاثية والرباعية، وينشرن صورهن على مواقع التواصل الاجتماعي، "أنستغرام" خصوصا، فهن ينشرن نموذجا سيئا عن المرأة العربية التي أصبحت، بهذا التصرف، لا تجيد سوى التصوير والتكاثر، بل إنها تشرح للنساء أنها قادرة على رعاية أكثر من مولود، وتقلدها النساء الفقيرات، ويغفلن عن الثراء الذي ترفل به قدوتهن، جرّاء الهدايا والامتيازات التي تحصل عليها من شركات التجميل، ولوازم الحمل والرضاعة، وحيث تكون أداةً ترويجيةً في أيدي تلك الشركات، وبيتها يمتلئ بالخادمات، وتبقى متابعاتها في عمىً وضلال غير قادرات على رعاية "رأس من القرنبيط".
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.