أيديولوجيا "تصحيح التاريخ"

أيديولوجيا "تصحيح التاريخ"

19 مارس 2019

صور قاتل المصلين تتصدر صحف أستراليا (16/3/2019/Getty)

+ الخط -
أمّا وأن المجرم برينتون تارانت الذي قتل مصلين آمنين في مسجدين في نيوزيلندا متعصبٌ وكاره للإسلام، ومشحونٌ بعداء متمكن فيه ضد المسلمين، صدورا عن ثقافة يمينية شديدة الرجعية، صارت من الظواهر غير الخافية والتي تتفشى حاليا في أوروبا وأميركا، فذلك كله لا يحتاج إلى إيضاح. وقد أصابت إضاءات الكتّاب  في "العربي الجديد" وغيرها على هذه المسألة في الأيام القليلة الماضية، غير أن هذا ليس كافيا أبدا، ذلك أن حالة الإرهابي تارانت تضيف إلى هذه التفاصيل العامة بعدا جوهريا، شديد الأهمية، لم تتوفّر كثافتها العالية، كما في جريمة مسجدي نيوزيلندا، في جرائم سابقة، يعود اقترافها إلى الكراهية إياها للإسلام والمسلمين، فالفاعل المتحدّث عنه هنا استرسل كثيرا في إيضاح غرضه، واستفاض في إفادة الجمهور العام الذي أرسل إليه الرسائل الدموية، المتضمنة في جريمته، بإحالاتٍ إلى تجارب من التاريخ، في أوروبا (وتركيا) خصوصا، كانت الغلبة، في كثيرٍ منها، لغير المسلمين. لقد بدا الرجل في مهمةٍ يمكن تسميتها "تصحيح التاريخ"، صدورا عن فهم لهذا "التصحيح" وهذا التاريخ معبّأ بأيديولوجيا بالغة العنصرية، وذلك بالانتقام من المسلمين، في مساجدهم، بقتلهم، ولا شيء آخر غير قتلهم. 
نحن، في الصحافات العربية، الثقافية خصوصا، مدعوون، بإلحاح، إلى قراءة معمّقة في الذي كتبه برينتون تارانت، عندما أحال إلى قادة وملوك وأمراء من التاريخ يتمثلهم، يجمعهم أنهم شاركوا في حروبٍ ضد العثمانيين. وعندما خص مساجد القسطنطينية (إسطنبول) ومآذنها، تحديدا، بالتهديد والوعيد، ومن ذلك إشارته إلى "أيا صوفيا" التي كانت كنيسة مُهابة، وصرحا مسيحيا ذا رمزية كبرى، منذ بناها إمبراطور بينزنطي، في القرن السادس الميلادي، قبل أن يحوّلها محمد الفاتح إلى مسجد، بإضافة مآذنها المشهورة إليها، في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم تصير متحفا، يؤمّه السياح. راح تارانت إلى تلك اللحظة من التاريخ، وكتب في "بيانه" الذي اشتُهر عقب جريمته، إن "القسطنطينية ستُحرّر من المآذن، وتعود مُلكا مسيحيا". وإذ يكتب صاحب هذه المقالة سطورَها من إسطنبول، فإنه يستشعر، عن قرب، الاهتمام الخاص الذي أبداه الأتراك، ورئيسُهم وحكومتُهم وأجهزة الأمن والمخابرات في دولتهم، بالجريمة المروّعة في نيوزيلندا. وقد جاءت الأخبار على زيارة المجرم تارانت إسطنبول مرّتين، في عام 2016، وأمضى في المدينة أكثر من أربعين يوما، تقدّر الأجهزة المختصة أنه "استكشف" في "رحلتيه" ما في وٌسعه أن يصنعه "انتقاما" من المسلمين الأتراك الذين رماهم بشتائم عنصرية، وهدّدهم بالقتل والطرد، إذا أرادوا العيش في "غرب البوسفور". وقد استنفرت هذه العدوانية، المدجّجة بحمولات التاريخ الصعب، في الأتراك شعورَهم القومي، وتديّنهم المعلوم، في مواجهتها، ولعل في الدعوات التي صارت أصواتها عاليةً منهم، ومن تمثيلاتٍ سياسية وحزبية (موالية ومعارضة) إلى الصلاة في "أيا صوفيا" دلالاتُها غير الخافية في هذا السياق. وهذا الرئيس أردوغان نفسه يعتبر أنهم (من هم؟) يمتحنون الأتراك في الرسائل التي بعثوها (من هم؟) من خلال الجريمة الدامية في مسجدي نيوزيلندا، "ويواصلون اختبار صبر تركيا وعزمها منذ نحو قرن".
أجهد المجرم العنصري نفسه وهو يأتي، في أكثر من 70 صفحة (!) على حزمةٍ من الوقائع في تاريخ أوروبا، زوّدته بذخيرةٍ لأيديولوجيا القتل والانتقام التي تقيم فيه، من قبيل احتفائه بمعركة فيينا في 1683، وقد أشار إليها على السلاح الذي استخدمه في قتل المصلين، وهي معركة هُزم فيها العثمانيون. ومن قبيل إشارته إلى القائد اليوناني، نيكيتاراس، الملقب (بحسبه؟) "ملتهم الأتراك". وبذلك، لسنا أمام حالة "تقليدية" في العداء للإسلام وكراهية المسلمين، وإنما أمام أيديولوجيا مسلّحة بتأويلٍ معين للتاريخ. ولا يستحسن أن نستسلم إلى أن الإرهابي الأسترالي، برينتون تارانت، ارتكب جريمته ببواعث فردية، وبنزوع شخصي، ذلك أن الخطاب الذي "يؤدلج" فيه جريمته، بوهم "تصحيح التاريخ"، ذو إحالاتٍ خطيرة، تستنفر الغرائز القومية، وتنتقي من التاريخ أوجاعا مكتومة، رمتها الحداثة وجهود المدنيّات القائمة منذ قرون وراءها،.. ولكن، ثمة دواعش، هناك أيضا، يوقظونها.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.