رسائل الشارع الاحتجاجي العربي

رسائل الشارع الاحتجاجي العربي

18 مارس 2019
+ الخط -
يشهد الشارع العربي، منذ بداية السنة الجارية، حراكا احتجاجيا معبّرا، تباينت أشكاله، وتنوّعت أدواته، وتعدّدت مطالبه، وتراوحت وتيرته بين الكمون والظهور، بحسب مقتضيات الظرف الأمني الذي ينتمي إليه المحتجّون. ففي السودان، كما في الجزائر، وفي الأراضي الفلسطينية، كما في مصر، عبّر النّاس بطرق مختلفة عن ضيقهم بالراهن السياسي الجاثم على صدورهم، فتدفّقت من شبكات التواصل الاجتماعي إلى ساحات الشوارع صيحات الراغبين في التغيير والتوّاقين إلى غد أفضل، وغدت عبارة "إرحل" نواة احتجاجية، دلالية، جامعة، تحمل طيّها عدّة رسائل، ويتردّد صداها من أم درمان إلى وهران، ومن غزّة إلى الجيزة، ولو باحتشام مردّه سطوة دولة العسكر.
بدأت الحالة الاحتجاجية الجديدة في السودان مع موفّى السنة المنقضية، على خلفية تذمّر الناس من ارتفاع أسعار الموادّ الأساسية، وتدهور المقدرة الشرائية. لكن سقف المطالب الشعبية لم يقف عند هذا الحدّ، بل تجاوز ذلك إلى المطالبة بإسقاط النظام (يسقط بس) حتّى غدت المطالبة بتغيير سياسي شامل غاية الانتفاضة التي انتشرت في محافظات سودانية عدّة، وشارك فيها مواطنون ينتمون إلى خلفيات أيديولوجية، وجهوية، وطبقية مختلفة. وهو ما دلّ على ضيق شعبي عارم من السياسات الحكومية التي وسمها متظاهرون بالبيروقراطية والتقليدية، والفساد 
والمحسوبية وسوء التصرّف. وبدا واضحا أنّ أجهزة النظام الدعائية وجدت صعوبة كبيرة في تبرير جدوى استمرار الحكم العسكري ثلاثين عاما ويزيد، في ظلّ تقسيم السودان، وفي ظلّ حصيلة تنموية متواضعة، ووضع معيشي صعب، يحياه عموم المواطنين. وعلى الرغم من مبادرة المشير عمر البشير بتغيير الحكومة، وتأجيل النظر في التعديلات الدستورية، وإعلانه حالة الطوارئ، وتحصينه نفسه وعرشه بقياداتٍ عسكريةٍ وازنةٍ بغاية استعادة هيبة النظام وامتصاص الغضب الشعبي، ما زالت البلاد تعيش على صفيح احتجاجي ساخن، يصعب فتوره في حال عدم وجود مبادرات إصلاحية عمليّة جادّة، وتأمين تداول سلمي على السلطة.
في الحالة الجزائرية، نزل آلاف المواطنين إلى الشوارع تعبيرا عن احتجاجهم على ترشّح عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، وعبّر النّاس عن موقفهم المعارض خيار جبهة التحرير الوطني بطريقة سلمية حضارية، لفتت انتباه العالم، فبدا المحتجّون على درجة عالية من الوعي والانضباط والمسؤولية، ولزمت القوّات المسلّحة سياسة ضبط النفس، ولم تنزلق إلى منحدر التعامل العنيف مع المتظاهرين. وتكمن أهمّية الفعل الاحتجاجي في الجزائر في أنّه قطع مع سنوات الصمت والخوف والقمع التي هيمنت على الشارع الجزائري عقودا، بسبب المواجهات الدامية بين الجيش والجماعات المسلّحة من ناحية، وبسبب احتكار النظام الحاكم المجال العام من ناحية أخرى. دشّن الاحتجاج لمرحلة جديدة من تاريخ الجزائر، غادر معها الشعب دوائر الحياد والتهميش، والصمت واللامبالاة إزاء المسألة السياسية، لينخرط بحيوية وكثافة في مسار التنافس على قيادة البلاد، وتحديد مستقبلها السياسي. وأبانت حركة الجموع في الشوارع وعيا احتجاجيّا، مدنيّا، حيّا، تحرّر من قوالب أحزاب الموالاة والمعارضة، وعبّر عن شوقٍ شعبي عارم إلى تحقيق مطالب سياسية بارزة، من بينها ضرورة إصلاح النظام السياسي والقانون الانتخابي، ومكافحة الفساد، وتكريس مزيدٍ من الحقوق والحرّيات، وتأمين تداول سلمي على السلطة. وبذلك مثّل احتجاج الشارع في السياق الجزائري فرصة تاريخية لمراجعة الذات، وإصلاح السياسة، والتأسيس لمعالم الجمهورية الثانية.
عبارة "إرحل" كانت حاضرة في الشارع الفلسطيني أيضا، رفعها سكّان قطاع غزّة احتجاجا على محمود عبّاس الذي تولّى إدارة دواليب السلطة الفلسطينية منذ سنة 2005. ولم تحقّق القضيّة الفلسطينية في عهده مكاسب كبيرة. بل بدا مشغولا بتطبيق المحامل الأمنية لاتّفاقية أوسلو أكثر من انشغاله بتوحيد الصف الفلسطيني، وفكّ الحصار الشامل الجائر المفروض على القطاع، وتحسين معيشة الفلسطينيين وتحقيق مطالبهم العادلة في العودة والحرّية والكرامة. اشتكى الغزّيون من سطوة إدارة عبّاس، ومساهمتها في تعميق الانقسام البيني الفلسطيني، وعابوا على الرّجل ويلات الحصار، وقطع الكهرباء والرواتب، وكذا تحجيره المظاهرات المؤيّدة لغزّة في الضفة الغربية. وبدا واضحا من تلك الاحتجاجات أنّ عبّاس لم ينجح، بعد سنوات من إدارة تجربة "الحكم الذاتي"، في أن يحقّق المطالب الفلسطينية الدنيا. كما لم ينجح في أن يكون شخصيّة قياديّة جامعة يلتفّ حولها الفلسطينيون في الداخل والخارج.
وفي السياق المصري، لم تمنع سياسات غلق المجال العام والحجر على الحرّيات العامّة والخاصّة، ومصادرة حقّ التجمّع والتظاهر، ومحاصرة نشطاء المجتمع المدني، النّاس من التعبير بطرق مختلفة عن سأمهم من دولة العسكر. وتكفي الإشارة، في هذا الخصوص، إلى 
استقطاب وسمي "ارحل يا سيسي" و"اطّمِن إنت مِش لوحدك" ملايين الأصوات على شبكات التواصل الاجتماعي. وتلك موجة احتجاجية تعبيرية دالّة على وعي النّاس بانسداد الأفق، في ظلّ الحكم العسكري وشوقهم إلى التغيير. وتجسّد الاحتجاج عمليّا من خلال حركة مكوّنات المجتمع المدني المصري ضدّ التعديلات الدستورية الهادفة إلى تأبيد الحكم الفردي، وتوسيع صلاحيات الرئيس، وتكريس استئثاره بالقرار والسلطة. وفي تحدٍّ للآلة الأمنية القامعة، ابتكر مصريون أشكالا مميّزة للتعبئة الاحتجاجية الشارعية، من قبيل إطلاق الصافرات، والكتابة على الجدران، والطرْق على الأواني، تعبيرا عن سخطهم على النظام الحاكم، وتضامنهم مع سجناء الرّأي (حوالي 60 ألف معتقل). والمرجّح أنّ مصريين كثيرين سيعودون إلى ميادين الاحتجاج لو أتيح لهم شيء من حرّية التعبير والتظاهر التي كانت متاحة لهم إبّان 25 يناير 2011.
تبعث صحوة الشارع الاحتجاجي العربي بعدّة رسائل أهمّها: كفى استبدادا... كفى فسادا ومحسوبية... كفى استئثارا بالسلطة والقرار والثروة... وتخبر تلك الرسائل بتشكّل وعي جمعي عربي، يُطالب بضرورة الإصلاح السياسي. كما تدلّ على إدراك الأجيال العربية الصاعدة حتميّة التداول السلمي على السلطة، ومبادرتها بافتكاك المجال العامّ، وتحريره من سطوة الفرد والحزب الواحد والعسكر. وبدا واضحا شوق العرب إلى إقامة أنظمة جمهورية، فعلية، لا صورية، تضمن لهم الحرّية والعدالة والكرامة والرّفاه. وهي طموحاتٌ مشروعة أحرى بالحاكم العربي التفاعل معها إيجابيّا، وإلاّ سيجد نفسه وأعوانه خارج التاريخ لا محالة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.