حكومة فلسطينية من نوع آخر

حكومة فلسطينية من نوع آخر

18 مارس 2019

عباس واشتية.. صورة تذكارية بعد التكليف بتشكيل حكومة (10/3/2019/الأناضول)

+ الخط -
خلافاً للطريقة التي جرى بها تعيين رؤساء وزراء الحكومات الفلسطينية منذ الانقسام في يونيو/ حزيران 2007، ولكن من دون تناقض معها، كلف الرئيس الفلسطيني عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمد اشتيه في 10 مارس/ آذار الجاري بتشكيل الحكومة الجديدة؛ إذ تجاوز في ذلك النهج التكنوقراطي في تحديد شخصية رئيس ومجلس الوزراء، ليمضي إلى تسمية شخصية سياسية من بين أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح. وجاء التكليف بعد إعلان رامي الحمد الله وضع استقالة حكومته تحت تصرف الرئيس في 28 كانون الثاني/ يناير 2019، بناء على توصية من اللجنة المركزية لحركة فتح.
منذ صدور قرار اللجنة المركزية، يوم 27 يناير/ كانون الثاني الماضي، بتشكيل حكومة جديدة من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وشخصيات مستقلة، بدأ أعضاء المركزية مشاوراتهم مع الفصائل، ولم يكن الحراك الساعي إلى تشكيل حكومة فصائلية، هادئًا، إذ رفضت الفصائل ممثلة بالجبهتين الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية، والمبادرة الوطنية، المشاركة في حكومة فصائلية من دون توافق وطني. ومع ذلك، قررت اللجنة المركزية المضي في تعيين رئيس جديد للحكومة، فإلى جانب رفض الفصائل الفلسطينية المشاركة في الحكومة الجديدة، طفا انقسام حاد بين تيارين داخل أعضاء اللجنة المركزية، على تحديد أي طرف منهما يستطيع أن يقنع الرئيس بمرشحه ليحظى بتشكيل الحكومة، فمن جهةٍ برز تيار يرى ضرورة تكليف 
شخصية تكنوقراطية جديدة، أو إعادة تكليف رامي الحمد الله، بصفته شخصية مهنية، ومن دون طموحات سياسية، وتيار آخر يطالب بتعيين شخصية فتحاوية من بين أعضاء اللجنة المركزية، نظرًا إلى أهمية المرحلة التي تمر بها السلطة الفلسطينية، بشرط أن لا يملك تاريخا خلافيا مع القوى والفصائل الفلسطينية والقواعد الشعبية لحركة فتح. وقد وُجد في تكليف اشتيه مرشحا توافقيا من خارج المعسكرات الخلافية القائمة.
وبعد أن أطاحت احتجاجات الفلسطينيين ضد قانون الضمان الاجتماعي (أكتوبر/ تشرين الأول 2018 – فبراير/ شباط 2019) بفرص بقاء رامي الحمد رئيسًا للوزراء، على الرغم مما يحظى به من دعم المانحين الدوليين، ومن أنه الخيار الأول للرئيس الفلسطيني، فإن ما كشفته هذه الاحتجاجات من فشل سياسي واقتصادي واجتماعي لسياسات الحمد الله، وضغوط من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح تجاه إقالته، أدت إلى فقدانه إمكانية استمراره في منصبه، وإلى تخلي الرئيس الفلسطيني عنه. وقد بلغت ذروة الموقف من الحمد الله، حين أوصى أعضاء اللجنة المركزية بتجميد العمل بقانون الضمان الاجتماعي، في اجتماعهم نهاية يناير/ كانون الأول، الأمر الذي دفع الرئيس الفلسطيني إلى إصدار قرار بقانون بوقف نفاذ القرار بقانون رقم 19 لسنة 2016 بشأن الضمان الاجتماعي وتعديلاته، إلى حين الوصول إلى توافق وطني على أحكام القانون وموعد نفاذه.
وبما أنه لم يتم الاتفاق مع الفصائل الفلسطينية على المشاركة بحكومة فصائلية، ولم يتمكن الرئيس الفلسطيني من إقناع اللجنة المركزية بشخصية تكنوقراطية مقبولة بديلة للحمد الله، في حين أنّ معظم مرشحي أعضاء المركزية باتوا في خلافٍ مع القوى والتيارات الفلسطينية، في بلد لا تزال نخبه السياسية تعيش حالة اغترابٍ مع الفلسطينيين، طُرح اسم محمد اشتيه. جاء هذا الطرح حلًا توافقيًا من خارج الانقسام داخل اللجنة المركزية، لقبوله من عموم الفلسطينيين في الضفة الغربية، والقواعد الشعبية لـ"فتح"، وذلك إلى جانب قدرته على توفيق الخلافات داخل الحركة، بصفته من خارج معسكر الخلافات القائمة. أضف إلى ذلك، اعتبر عديدون اشتيه تعبيرا صريحا عن بروز الصف الثاني من النخبة السياسية لحركة فتح، وهو الذي يتمتع بثقة لدى الرئيس واللجنة المركزية كونه خبيرا سياسيا واقتصاديا.

أولويات وتحدّيات
وقد أسند الرئيس الفلسطيني في كتاب التكليف الرئاسي الذي سلمه إلى اشتيه أولويات واجبة على الحكومة الفلسطينية الجديدة. وكان لافتا عدم الإشارة إلى دور الحكومة في تحقيق المصالحة الفلسطينية، والاستعاضة عن ذلك بعبارة "إعادة غزة إلى حضن الشرعية"، في تعبيرٍ صريح على أن دور هذه الحكومة محصورٌ في الضفة الغربية، وأن إنهاء الانقسام ليس 
مطروحا على أجندة الحكومة.
على صعيد الانتخابات التشريعية، حث كتاب التكليف على "إجراء الانتخابات التشريعية في محافظات الوطن الجنوبية والشمالية بما فيها القدس الشرقية"، وذلك بالرغم من إدراك الرئيس صعوبة إجراء الانتخابات في القدس وغزة، سيما أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أبلغت
رئيس لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية عدم وجود نيّة لعقد انتخابات تشريعية، من دون انتخابات رئاسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا فضلًا عن امتناع إسرائيل عن السماح للسلطة الفلسطينية إجراء انتخابات تشريعية في القدس، إذ يتزامن الحديث الفلسطينيّ عن مشاركة المقدسيّين في الانتخابات التشريعيّة المقبلة مع مرحلة الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وسباق انتخابي محكوم لدعاية إسرائيليّة يمينية، إذ تزاود الأحزاب الإسرائيليّة على بعضها بعضاً في موضوع القدس باعتبارها عاصمة لإسرائيل.
وشدّد كتاب التكليف على ضرورة "مواصلة العمل لإنجاز بناء مؤسسات الدولة والنهوض بالاقتصاد وتمكين المرأة والشباب وتعزيز ثقافة السلام، وسيادة القانون واستقلال القضاء وحماية الحريات العامة، وتعزيز الشراكة ما بين القطاع العام والخاص والأهلي، ودعم أسر الشهداء والجرحى والأسرى، ومواصلة الدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية." ما يعني أولويات تصب كل تركيزها للعمل في الضفة الغربية فقط.
ويرجح كثيرون أن اشتيه اختير بسبب خلفيته الاقتصادية؛ ما يعني أن الرهان على حكومته سيكون رهانا على الإصلاح الاقتصادي، وتوفير رواتب للموظفين، وإيجاد فرص عمل، ومكافحة الفقر في الضفة الغربية، وهي تحديات جسيمة، لسلطة تعاني حصارا ماليا، منذ وقف المساعدات الأميركية المقدمة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما أنّ قرار السلطة الفلسطينية عدم استلام أموال المقاصّة من السلطات الإسرائيلية، بعد اشتراط الأخيرة خصم مخصصات أسر الشهداء والأسرى منها، يهدّد الوضع الاقتصادي للسلطة الفلسطينية. وقد بيّن آخر قرار للحكومة السابقة بصرف 50% من الراتب، صعوبة المرحلة الراهنة وتعقيداتها، ولا سيما أن السلطة الفلسطينية اليوم تعيش حصارا ماليا وسياسيا. وعدّ هذا القرار إنذارا من رئيس وزراء راحل إلى رئيس وزراء قادم.
كما أن أسلوب اختيار اشتيه لرئاسة الوزراء لا يمثّل إصلاحا للنظام السياسي الفلسطيني الذي 
يعاني أزمات بنيوية، بقدر ما سيعمل على تأزيم المشكلات السياسية التي ستواجه اشتيه وحكومته، سيما أنه سيكون رئيس وزراء من دون مشاركة الفصائل الفلسطينية؛ ذلك بعد رفض القوى والفصائل المشاركة في الحكومة، وكذلك، لا يتوقع أن يسعى (وقد عمل أعضاء اللجنة
 المركزية مشاوراتهم قبل أن يُرشَّح لرئاسة الوزراء) لبناء حكومة فصائلية، من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا فضلًا عن عدم تصريح رئيس الوزراء عن طبيعة علاقة حكومته مع قطاع غزة.
من جهة ثانية، وحيث إنه جرت تسمية رئيسٍ للوزراء من خارج الخلافات الفتحاوية القائمة،
في تسويةٍ قبل بها الجميع، يتوقع أن تعوّض مراكز القوى الفتحاوية من خلال منافستها على الوزارات، ولا سيما الداخلية والخارجية والمالية؛ ما يحمل، بين طياته، منازعات قد تبرز في صلاحيات رئيس الوزراء، ويضعف من سلطاته. وفضلا عن ذلك، فلا خبرة سابقة لاشتيه في التعامل مع المؤسسة الأمنية، إذ تنحصر خبرته في الشؤون الاقتصادية والتنموية؛ ما يعني أنه ربما يفتح المجال أمام تصاعدٍ في الصراع على الصلاحيات الأمنية، خصوصا أن السلطة الفلسطينية بالرغم من توتر علاقتها بالحكومة الإسرائيلية، إلا أنها لم توقف التنسيق الأمني.
على المستوى المحلي، تبقى قدرة اشتيه في فرض سياساته محدودة إلى حد ما، ففي سياق التنافسات الحادة في الضفة الغربية، لا يُعرف أن شخصا ما عارض الرئيس الفلسطيني في قراراته؛ الأمر الذي يفتح المجال لسيناريوهين، أن يقبل اشتيه العمل مع الرئيس وعدم مخالفة
 قراراته وسياساته، أو أن يفرض اشتيه سياسته، ما يرجح صداما محتملا مع الرئيس. وليس مصادفة أن يُطرح اسمه ثانيةً لرئاسة الوزراء؛ إذ سبق أن طُرح إبّان الخلاف بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء المستقيل، رامي الحمد الله، عام 2013، بعد تقديم الأخير استقالته إلى الرئيس، لتدخل نوابه في صلاحياته ومهماته، لكن الرئيس حسم الموقف حينها ببقاء الحمد الله رئيسا للوزراء، لكن اشتيه ظل مرشحا منذ ذلك الحين، بدفعٍ من بعض أعضاء اللجنة المركزية، بصفته مقبولا لدى حركة فتح التي ضغطت لتكليف الأخير تشكيل الحكومة الجديدة.
على المستويين، الإقليمي والدولي، يُعدّ اشتيه شخصا توافقيا، كما هو الشأن على المستوى الداخلي، وإنْ لم يكن مرشحا لأيٍّ من هذه القوى لمنصب رئيس الوزراء. ويستفيد اشتيه في ذلك من صلاته القوية مع المنظمات الإقليمية والدولية التي عمل معها إبّان عمله وزيرا في الحكومة للأشغال العامة والإسكان في الحكومتين، التاسعة والثالثة عشرة، وعمله في رئاسة المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار)، ومجلس الإسكان الفلسطيني، وصندوق التنمية الفلسطيني. كما سيستفيد من علاقاته مع الدول المانحة والبنك الدولي، كوّنه عمل على قضايا اقتصادية وتنموية عدة، وترأس الوفد الفلسطيني للمفاوضات المتعدّدة الأطراف المتعلقة بالتعاون الاقتصادي؛ يعني ذلك أن اشتيه ربما يكون الخيار الأمثل لحركة فتح والرئيس الفلسطيني في هذه المرحلة، وليس الخيار الأمثل للشعب الفلسطيني، سيما أنه يُتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة مزيدًا من التوتر بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة، وهذا فضلًا عن التصعيدين، الأميركي والإسرائيلي، ضد الفلسطينيين.
في الحصيلة، هذه الحكومة تعبير حقيقي عن السجن الكبير الذي يقيد حياة الفلسطينيين ومصيرهم، ويحصره في يد نخبةٍ تدمن الفشل، فمن دون شراكةٍ أو مساءلة أو محاسبة من المجتمع والقوى والفصائل الرئيسية فيه، فإن ذلك ضمانٌ لإشعال فتيل أزمةٍ قد لا يحمد أحد عواقبها.