التحضّر والتديّن

التحضّر والتديّن

18 مارس 2019

(ضياء العزاوي)

+ الخط -
يعتقد صديقي الصيني الذي يعمل أستاذاً جامعياً وعميداً لإحدى الكليّات أن الفرق الهائل في النظافة والترتيب بين المدن الصينية والهندية، والذي يميل لصالح الأولى، يعود بشكل أساسي إلى مدى تديّن كل من الشعبين، فالشعب الهندي شديد التديّن، يؤمن أن حياته الحقيقية ستكون بعد الموت، فلا يلقي بالاً لجودة يومياته الراهنة، من حيث نظافة الشوارع وتنظيمها واحترام قانون السير فيها، بينما تجد الشعب الصيني، عديم التديّن بشكل عام، منصرفاً إلى الاهتمام بحياته الراهنة، باعتبارها الأولى والأخيرة، ولا حياة بعدها.
ما يمكن "ترتيبه" في مغزى هذا القول إن اللوم لا يقع على الأديان بذاتها بالضرورة، إذ يمكن، على العكس، أن تكون رافعةً لتهذيب الأفراد والمجتمعات، إنما يقع اللوم على "المنظومات الدينية" التي قطعت الصلات بين الناس وحياتهم الدنيا، حين يتعلق الأمر بالسلم المجتمعي، بما يتضمنه من بناءٍ تراكمي للأوطان، وربطتهم بها ربطاً وثيقاً، حين يتعلق الأمر بالحرب والقتل والقتال، باعتبارها أعمالاً متعلقة بالنجاح في الحياة الآخرة، من دون أن تنسى حشرهم في زاوية الشعائر الدينية، تعويضاً لهم عن انفصالهم عن واقعهم اليومي، وحاجاتهم الأخلاقية فيه.
والحال أن أزمة المنظومات الدينية المعاصرة التي تتحكم اليوم بمجتمعاتنا العربية، كما تتحكّم بالمجتمع الهندي، وبكل مجتمع متديّن، تتمثل في حصر المعايير الأخلاقية بما هو شخصي في حياة أفرادها، وعدم التفاتها إلى ما هو عام. لذا تهتم بلباس الفرد وهندامه وطعامه وشرابه وخصوصياته اليومية، وتمنح الآخرين الحق في مراقبتها والتعليق عليها، ومن ثم تقرير مدى "أخلاقية" المرء من عدم أخلاقيته، لكنها لا تبدو معنيةً بسلوك الفرد في الحياة العامة، تجاه الآخرين، وتجاه المجتمع الذي يعيش فيه، فلا يُضيره أن يوقف سيارته في وسط الطريق معطلاً حركة السير، أو أن يلقي القمامة في الشارع العام، أو أن يكسر مقعداً في الحديقة العامة: لن يقول عنه أحدٌ ساعتها إنه بلا أخلاق!
هذه "المنظومة" هي التي جعلت كل ما هو عام مستباحاً، ما دام المرء يلبس ويأكل ويتصرّف كما تقرّر معاييرها التي ليس منها طبعاً احترام القانون، وحماية المال العام والممتلكات العامة
 من التخريب أو الهدر، بما فيها من ماء وكهرباء وطاقة، من دون أن تسأل نفسها: ما الذي تستفيده الأوطان، لو أصلح واحدنا علاقته مع ربه، وأفسد علاقته بالناس؟
وينعكس واقع الحال هذا على مدى فاعلية العمل العام، فلا يجد عادة جمهوراً، ولا متطوعين، وعلى سبيل المثال: لا ينضوي الناس في الأحزاب السياسية التي هي مؤسسات "عامة"، إن لم يضمنوا منها مكاسب فردية "خاصة"، فتتحوّل أخيراً إلى هياكل شكلية فارغة المضمون. وتتوقف فاعلية الجمعيات والمنظمات والهيئات التطوعية، إن غاب رئيسها أو الشخص الواحد النشيط فيها، ولا تجد بين مئات أو عشرات من الأشخاص المسجلين في كشوفاتها، باعتبارهم أعضاءها، من يتطوع لتفعيلها وتنشيطها، بينما تنشط جمعيات الإعانة والإغاثة للفقراء والأيتام في مواقع معينة، كي تصير خزّاناً انتخابياً لها، وتتبنّى هيئاتٌ أخرى قضايا المرأة وحقوق الإنسان والديمقراطية، لتحصل بحجتها على "تمويل أجنبي" تجني منه ربحاً وفيراً!
من هذه الزاوية تحديداً، تظهر الأهمية الاستثنائية التي توفرت عليها ثورات الربيع العربي، باعتبارها انخراطا جماعيا للأفراد في شأن عام يمسّ بناء الأوطان وتحضّرها. كانت الثورات بمثابة كسر لتلك المنظومة القيمية التقليدية، وتبريراتها الدينية، وليست كسراً للحضور الديني بذاته، بدليل أن قطاعات واسعة من المنخرطين فيها تمسّكوا بتفكيرهم الديني. ولكن يبدو نجاح كل ثورة أو فشلها مرتبطاً بمدى خروجها من تلك المنظومة، أي من الاكتفاء بالشخصي إلى الاهتمام بالعام، وهذا هو بالضبط الدرس الذي يجب تعلّمه اليوم في كل من السودان والجزائر.
لقد أدركت البشرية منذ زمن أن بناء دول متحضّرة من مواطنين يتصرّفون على أساس أداء الواجبات والحصول على الحقوق، في مظلةٍ من القانون والمؤسّسية، يلزمه تكريس منظومات قيمية تحكم على مدى أخلاقية المرء في ضوء سلوكه تجاه الآخرين، وتجاه ما هو عام ومشترك بين الناس، لا في ضوء حياته الخاصة وسلوكه الشخصي، وليس مهماً ساعتها إن كانت رافعة هذه القيم دينيةً أو غير دينية. وقد تأخرنا في إدراك ذلك كثيراً.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.