جمهورية مصر الإسلامية

جمهورية مصر الإسلامية

16 مارس 2019
+ الخط -
"جمهور الفقهاء يمنع شرعاً تولي المرأة للقضاء"، لم تأتِ هذه العبارة على لسان عضو في جماعة إسلامية، بل قالها رئيس محكمة جنايات القاهرة الأسبق، المستشار فريد نصر، في حوار تلفزيوني الثلاثاء الماضي. وأسهب سيادته في التفاصيل الفقهية، وكيف أن الإمام أبو حنيفة أجاز تولي المرأة للقضاء، باستثناء الحدود والقصاص. وهكذا، زال في لحظةٍ الفرق بين القانون والدين في نظر رجل القضاء، المؤسسة التي يُعوّل عليها لحماية "المواطنة" في أي دولة منطقية.
بعد يوم واحد كنا على موعد مع مشهدٍ شبيه، فقد صدر تقرير الخارجية الأميركية السنوي لحقوق الإنسان، وسرعان ما رفضته الخارجية المصرية. وعلى الإعلام شهدنا أحد خيرة أبنائها: السفير جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية الأسبق، وهو يؤكّد أن مصر لن تقبل بحقوق الإنسان بالمفهوم الغربي، فهم يتحدّثون عن إلغاء عقوبة الإعدام والسماح بالزواج المثلي والعياذ بالله. وتابع: "هم يتكلمون عن ثقافاتٍ تخصّهم لا يمكن أن نقبلها، فهم ينتقدون الزواج المتعدّد للرجال في العالم الإسلامي، لكنهم يقبلون الزوج مع عشيقة ..". ويجب التنويه هنا أن السفير بيومي كان تحديدا يشغل المنصب المهيب: أمين اتفاق الشراكة المصرية الأوروبية.
شهد الأسبوع الماضي، بالتزامن، غزوات "فيسبوكية"، قام بها الشيخ الأزهري عبدالله رشدي، ضد "العلمانج"، كما يسميهم. كرّر إن العلمانية "فكر لا يحارب إلا لإتاحة العهر وخلع الحجاب"، وكان قد تحدث سابقاً عن رغبة العلمانيين في تشويه الجهاد بالقرآن، أو النيْل من الفتوحات الإسلامية، أو رفضهم تجريم الخمر بحجة أنها حرياتٌ شخصية. ومن هذا المنطق الديني نفسه، يؤيد الشيخ رشدي الرئيس عبد الفتاح السيسي، بطبيعة الحال، فهو كما وصفه، في تصريحات سابقة، في أثناء إمامته مسجد السيدة نفيسة "رجلٌ مؤمنٌ تربّى على يد الشعراوي والشيخ إٍسماعيل العدوي".
يمكن أن نضع هذه المشاهد في سياقٍ أوسع مستمر في السنوات الأخيرة، فالرئيس السيسي تحدث مراراً عن مسؤوليته الدينية، وعن "غيرته على الإسلام"، ولا تنتهي القصص المتواترة عن ميوله الإسلامية الصوفية منذ نشأته في الجماليّة.
وبالعودة خطوات بالتاريخ، نعرف أن الشحن الديني كان عنصراً مؤسّساً دائماً في القوات المسلحة المصرية عبر "الشؤون المعنوية"، حتى أننا شهدنا بعد فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، في القاهرة صيف 2013، مقاطع فيديو لشيوخٍ تحدّثوا إلى قوات الجيش قبلها، وفي مقدمتهم المفتي السابق علي جمعة.
وبالحفر أعمق، نجد أن هذا المكون أصيل في نشأة الدولة المصرية الحديثة نفسها، فدستور 1923، في عصر الليبرالية الذهبي، هو أول من وضع مادة أن "دين الدولة الإسلام". وفي هذا العصر، أصدرت المحاكم أحكاماً بالشريعة الإسلامية خارج القانون، وهو ما تكرّر مراتٍ، حتى وصلنا إلى حكم التفريق بين الدكتور نصر حامد أبوزيد وزوجته في عهد حسني مبارك، ونهايةً بالقاضي الذي حكم بفصل عمالٍ أضربوا، لأن الإضراب حرام شرعاً!
يقدّم هذا التصور إجهاضاً لأوهام فريقين متقابلين، أولهما من توهموا أنه يجب التنازل عن الديمقراطية الآن في مقابل حماية الجيش والسيسي الدولة المدنية والتنوير. وثانيهما خطاب إخواني، روّج، خداعاً للغير أو للنفس، أن هناك حرباً على الإسلام في مصر، وأن السيسي يغلق المساجد، ويقتل المصلين، وينشر الرذيلة، ويكره القرآن.. إلخ.
هذا فضلاً عن إشكالية هدف المشروع الإخواني نفسه، فهو حين قدّم نفسه نموذجا إسلاميا تقدمياً لا يعنى بالقطع والرجم والجلد، أو فرض الرقابة الأخلاقية والحجاب، كانت النتيجة عدم وجود أي شيء حقيقي يميّزه عن غيره. وللمفارقة العجيبة هنا، صرّح المستشار أحمد الزند (رئيس نادي القضاة الأسبق الذي يُعد شريكا في إطاحة الرئيس محمد مرسي)، في 2012 في مقابلة مع الشيخ السلفي محمد حسان، إن القضاة يتحرّقون للحكم بالشريعة الإٍسلامية في الحدود الجنائية.
كل شيء حولنا يهتف: مصر دولة إسلامية بالفعل. النخب المصرية الحكومية بعمومها لا تعتنق أية أفكار تقدمية من أي نوع. الصراع بين "الإخوان المسلمين" والدولة ليس بين إسلام وكفر أو علمانية، بل بين إسلاميْن، إسلام سياسي معارض، وإسلام سياسي رسمي. إدراك الواقع أول خطوة في التعامل بلا أوهام تمنح زيف الأمل أو اليأس.