ثورة 1919 المصرية وحلم الاستقلال

ثورة 1919 المصرية وحلم الاستقلال

14 مارس 2019

سعد زغلول

+ الخط -
قبل مائة عام، في 9 مارس/ آذار من عام 1919، انطلقت في مصر شرارة ثورة بدأت بتظاهراتٍ محدودةٍ لطلبة الجامعة المصرية، سرعان ما انضم إليها طلبة جامعة الأزهر، وكان هدفها الظاهر الاحتجاج على قرار سلطة الحماية البريطانية نفي سعد زغلول، ومعه رفاقه، إسماعيل صدقي، ومحمد محمود، وحمد الباسل، إلى جزيرة مالطا، في اليوم السابق، بزعم أنهم يثيرون الاضطرابات في البلاد، حيث كان قد استدعاهم الجنرال واطسون، ضابط الجيش البريطاني في مصر، يوم 6 مارس/ آذار، وحذّرهم من أن نشاطهم ضد الحماية سيعرّضهم لقانون الأحكام العرفية. وذلك بينما كانت تحرّكاتهم تهدف إلى تشكيل وفد مصري يحضر مؤتمر باريس للسلام، للمطالبة بإنهاء الحماية البريطانية على البلاد، والاعتراف باستقلال مصر. وحتى يكتسب ذلك الوفد المشروعية، تم السعي إلى جمع توكيلاتٍ من أبناء الشعب المصري لتفويض الوفد في تمثيلهم للمطالبة بالاستقلال، وهو ما لاقى إقبالاً شعبياً كبيراً، وأثار قلق سلطات الاحتلال البريطاني.
تطورت الأحداث بسرعة، وعمّت المظاهرات، والاضطرابات، والإضرابات، كل ربوع القطر المصري، بريفه وحضره. وشاركت فيها كل طوائف الشعب، من الأعيان والموظفين والعمال والفلاحين والنساء والشباب، من مسلمين وأقباط. تلك الأحداث التي تحولت ثورةً شعبية،
 تجاوزت فكرة المطالبة بالإفراج عن سعد زغلول وصحبه، وأصبحت أول ثورةٍ شعبيةٍ مصريةٍ حقيقيةٍ، ذات طابع وطني خالص، من دون أي توجه ديني، أو أيديولوجي، ولكنها ثورة سياسية، أيقظت في الوجدان المصري حلم الاستقلال الذي كان كامناً عقوداً طويلة.
لم تأت الثورة بشكل عفوي، ولم تخرج جموع الشعب المصري في كل أرجاء الوطن، من أجل المطالبة بالإفراج عن أعضاء الوفد المنفيين، أو تلبية لدعوة سعد زغلول ورفاقه فقط، على الرغم من أهمية تلك الدعوة. لكن الناس خرجوا، في حقيقة الأمر، تعبيراً عن حالةٍ من الغضب المكبوت، نتيجة للقهر والظلم، وسلب الإرادة، في ظل احتلال طال أمده، وتهافت، وخنوع السلطة المحلية التي كان يمثلها خلفاء محمد علي.
ولا تكتسب ثورة 1919 أهميتها فقط من أنها أول ثورة شعبية مصرية في العصر الحديث، شاركت فيها كل طوائف الشعب، لكنها تكتسب أهميتها أيضاً من الظروف شديدة الصعوبة التي تفجّرت فيها الثورة، واتحدت كل القوى الوطنية حول هدف واحد محدّد هو الاستقلال واستمرار الحالة الثورية وفعالياتها، أكثر من عامين، على الرغم من سقوط آلاف الضحايا من شهداء ومصابين، أيضاً على الرغم من كل وسائل الترغيب والترهيب التي مارستها سلطة الاحتلال البريطاني، والتي لا بد لأي باحثٍ متجرّد أن يضع ذلك كله في الاعتبار عند تقييم تلك الثورة، لتكون نموذجاً لتحدّي الصعاب والمعوقات التي يمكن أن تعترض طريق الثوار في أي مكان، وأي زمان.
مع بداية الحرب العالمية الأولى، اتخذت بريطانيا إجراءات تعسفية، بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول 1914 بإصدار قانون منع التجمهر، وإعلان الأحكام العرفية. ثم في 18 ديسمبر/كانون الأول 1914، تم إعلان الحماية على مصر، وزوال السيادة العثمانية عنها. وفي اليوم نفسه، تم خلع الخديوي عباس حلمي الثاني، وتعيين السلطان حسين كامل على عرش مصر تحت الحماية البريطانية. وتحولت مصر إلى قاعدة رئيسية لخدمة المجهود الحربي البريطاني. وعمدت السلطات البريطانية إلى استخدام وسائل العنف والقمع، لجمع الأموال والمؤن من 
الأهالي، وتطور الأمر إلى جمع الرديف، والشباب، وتشكيل فرق عمل منهم لخدمة المجهود الحربي في أعمال النقل، وتمهيد الطرق، والسكة الحديد، وغيرها من الأعمال، وتشغيلهم تحت ظروفٍ شديدة القسوة، وتعرّضهم للمعاملة السيئة.
استمر ذلك طوال سنوات الحرب، وساءت أحوال البلاد والعباد، وسادت حالةٌ من الغضب المكبوت، والضجر الشديد، وسط عامة الناس، ومختلفِ طبقات الشعب، بما في ذلك طبقة الأعيان، والسياسيين، ووصلت إلى أمراء من أسرة محمد علي أنفسهم. وفي ظل تلك الأجواء المشحونة، ومع بوادر انتهاء الحرب العالمية بانتصار الحلفاء، ولدت فكرة تأليف جماعة/ أو وفد للمطالبة بحقوق مصر في مؤتمر السلام المزمع عقده بعد انتهاء الحرب، وإعلان الهدنة رسمياً. وكان أول من طرح تلك الفكرة الأمير عمر طوسون، المعروف بعدائه للإنكليز، وعرضها على سعد زغلول في أكتوبر/ تشرين الأول 1918، باعتباره وكيل الجمعية الشرعية المنتخب. استحسن سعد الفكرة، ولكنه رأى تكوين الوفد من دون مشاركة الأمير عمر طوسون، وهو ما تم، عندما توجه مع زميليه في الجمعية التشريعية، عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي لمقابلة المندوب السامي البريطاني، السير ريجنلد وينجت، يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، لطلب التصريح لهم بالسفر للتباحث مع الحكومة البريطانية بشأن مطالب البلاد بإنهاء الحماية والاستقلال. انتهت المقابلة من دون نتيجة، وتساءل وينجت عن الصفة التي يتحدث بها سعد زغلول ورفاقه باسم الأمة، فبادر سعد إلى تكوين الوفد المصري برئاسته، وتم السعي إلى الحصول على توكيلات من الأمة لتمثيلها.
تطوّرت الأحداث إلى أن تم نفي سعد ورفاقه، واندلاع الثورة وامتدادها لتشمل كل ربوع البلاد، حتى تقرر الإفراج عن سعد ورفاقه يوم 7 إبريل/ نيسان 1919، وإتاحة السفر لهم ولغيرهم من المصريين. ثم سافر أعضاء الوفد إلى باريس يوم 11 إبريل، لمتابعة أعمال مؤتمر الصلح، ولكن جاء اعتراف المؤتمر بالحماية البريطانية على مصر، وتم النص على ذلك في
 معاهدة الصلح في 28 يونيو/ حزيران 1919، والتي احتفت بها الحكومة المصرية، ليمثل صدمة للوفد المصري، وجماهير الشعب التي استمرت في ثورتها. وتوالت الأحداث والوفد المصري ينتقل ما بين باريس ولندن، بينما شكلت الحكومة البريطانية لجنةً برئاسة اللورد ملنر لدراسة الأحوال في مصر. ولم تسفر أعمال اللجنة، ولا مفاوضات الوفد في لندن عن أي نتائج. ومع استمرار الثورة، دعت بريطانيا مصر إلى مفاوضات رسمية في 26 فبراير/ شباط 1921، وتشكلت حكومة عدلي باشا يكن في 13 مارس/ آذار ليتولى تلك المفاوضات التي انتهت إلى الاتفاق على إصدار إعلانٍ من طرف واحد في 28 فبراير/ شباط 1922، تقرّر فيه بريطانيا إنهاء الحماية، والاعتراف باستقلال مصر، مع تحفظات أربعة، خاصة بالدفاع عن القناة، وحماية الأجانب، والأقليات، ووضع السودان. عند ذلك الحد، توقف الزخم الثوري، بعد سقوط أكثر من ثلاثة آلاف شهيد، وعشرات آلاف من المصابين، وضحايا المحاكمات العسكرية التي جرت إبّان أحداث الثورة، وذلك عدا الخسائر المادية الهائلة. وتم إقرار أول دستور لمصر باعتبارها دولةً مستقلةً ذات سيادة، وإن كان استقلالاً منقوصاً ببقاء قوات الاحتلال، وهو دستور 1923، والذي جرت على أساسه أول انتخابات برلمانية، فاز فيها الوفد بعد تحوله إلى حزب سياسي بزعامة سعد زغلول، والذي شكل أول وزارة برلمانية، وهو ما فتح الباب أمام استمرار الحركة الوطنية المصرية، بهدف استكمال تحقيق الاستقلال التام.
ويبقى حلم الاستقلال التام المحرّك الرئيسي للشعوب التي تسعى إلى امتلاك إرادتها الحرة، ذلك الحلم الذي سيبقى في وجدان الشعوب، طالما استمر استبداد الحكام والطغاة، وحتماً ستنتصر الشعوب.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.