المغرب.. هذا الاحتقان الاجتماعي

المغرب.. هذا الاحتقان الاجتماعي

14 مارس 2019
+ الخط -
يعيش المغرب، للأسبوع الثاني، على وقع إضراب الأساتذة المتعاقدين، بعد أن رفضت الحكومة الاستجابة لمطلبهم الإدماج الكامل في القطاع العام، مكتفيةً باقتراح تعديلاتٍ على النظام الأساسي الخاص للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والذي يخضعون لمقتضياته بموجب عقود. 
وإذا كانت هذه الأزمة على صلةٍ بالنزيف المتواصل الذي تعرفه منظومة التربية والتكوين المغربية، فهي تحيل، كذلك، إلى مناخ اجتماعي عام بات الاحتقان عنوانه البارز، في ضوء عجز الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، عن تدبير الملف الاجتماعي وإدارة تناقضاته، بما يفضي إلى إحلال نوعٍ من التوازن بين الفئات والمناطق والجهات، وبالتالي الحفاظ على حد أدنى من السلم الاجتماعي.
ولا حاجة للتذكير بما عرفته السنة الماضية (2018) من ارتفاع منسوب الاحتجاجات، وتمدّدها في اتجاه فئاتٍ وشرائح اجتماعية مختلفة، سيما في القطاعات الحيوية (التعليم، الصحة، النقل..)، الشيء الذي يعكس طلبا متزايدا على الخدمات الاجتماعية الأساسية، في مقابل إخفاقٍ مخيفٍ من السلطة والنخب في التفاعل بإيجابيةٍ مع هذا الطلب، في ظل محدودية الموارد، وعجز الاقتصاد المغربي عن تجاوز معضلاته البنيوية، المتمثلة، أساسا، في غياب نسبةٍ من النمو تسمح بالاستجابة، ولو نسبيا، لمطالب الشارع. كما لا ينبغي القفز على معطىً في غاية الأهمية، متمثل في المخاوف التي ما زالت تُبديها السلطة بشأن التحوّل نحو الديمقراطية، وهي مخاوفُ لها كلفتُها السياسية والاجتماعية والأمنية على المدى البعيد، خصوصا أمام تنامي وعيٍ جديدٍ بأهمية الحقوق الاجتماعية في عالم صار قريةً كوكبيةً، واقعا لا مجازا، فلم يعد مستساغا النظر إلى هذه الحقوق باعتبارها ''امتيازاتٍ'' تمنُّ به الدولة على مواطنيها (رعاياها!).
كان يُنتظر أن تتعاطى الحكومة مع مطالب النقابات برفع الأجور في القطاعين، العام والخاص، بنضج كثير، عوض أن تكتفي بعرض انتقائي، لا يرقى إلى تطلعات عموم الموظفين والأجراء الذين يشكلون نسبةَ كبيرةً داخل الفئات الوسطى والفقيرة، في الوقت الذي تعرف فيه الأوضاع المعيشية لهذه الفئات تراجعا ملحوظا، بسبب ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم، وتزايد نسبة البطالة بين خريجي الجامعات، هذا إضافة إلى تحمّل هذه الفئات الكلفة الثقيلة لإصلاح منظومة التقاعد.
كما أصبح ضروريا إعادة النظر في آلية الحوار الاجتماعي التي يبدو أنها وصلت إلى سقفها، فقد تم إحداثها في سياقِ تطلع نظام الملك الحسن الثاني، إبّان التسعينات، إلى توسيع قاعدة التوافق السياسي مع أحزاب الحركة الوطنية، وهو التوافق الذي بلغ ذروته بتشكيل حكومة عبد الرحمن اليوسفي في 1998. لكن الوضع الآن تغير بعد أن جرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسور السياسة والاجتماع، فالنقابات فقدت كثيرا من عنفوانها، وصارت عاجزةً عن مسايرةِ وتيرة الديناميات الاحتجاجية الجديدة التي يفرزها المجتمع، وبلورةِ خطابٍ نقابيٍّ يستوعب هذه المتغيرات، ويعيد صياغتها وفق متطلبات المرحلة، خصوصا أن السنوات الأخيرة شهدت ظهور أشكالٍ احتجاجيةٍ لم تعهدها السلطة والنخب من قبل، أبرزها انخراط فئات اجتماعية واسعة في مقاطعة منتجات بعض الشركات (الحليب، المحروقات والمياه المعدنية..)، وهو ما اعتُبر طورا غير مسبوقٍ في الاحتجاج المغربي.
ولا مجازفة في الزعم أن الحيوية التي باتت تُبديها النقابات أخيرا تعود إلى إحساس قياداتها بأن البساط قد سُحب، أو يكاد، من تحت أقدامها، بعد تراجع الأحزاب الكبرى التي كانت تشكل تغطيةً سياسيةً لخطابها، ولم يعد في وسعها أن تقوم بدور التأطير والوساطة، كما أن ظهور ما تعرف بالتنسيقيات فاعلا جديدا في الحقل الاجتماعي، أربك حساباتها في ضوء توجه هذه التنسيقيات نحو التحكّم في منسوب الاحتقان الاجتماعي، واستثمار عوائده في خطابها. وكان لافتا، قبل أيام، رفض وزير التربية الوطنية الحوار مع تنسيقية الأساتذة المتعاقدين، ما يحيل إلى ثقافةٍ سياسيةٍ تقليديةٍ تأبى التجديد في نسق الفاعلين داخل هذا الحقل.
الحاجة ملحةٌ في المغرب لرؤيةٍ مغايرةٍ لقضايا التنمية، تُحصِّن المكتسبات من جهة، وتحول دون تزايد مؤشرات احتقانٍ اجتماعيٍّ يلوح في الأفق. ولعل ذلك لا يتأتّى من دون صياغة مشروع تنموي يتجاوز الرؤية المالية والتقنية والأمنية، ويستوعب المتغيرات المجتمعية الحاصلة، والتي صار من الصعب التحكّم فيها وتوجيهها، من دون مقاربة أفقية تتوازى فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.