الرواية هي الحلم

الرواية هي الحلم

14 مارس 2019

(فاتح المدرس)

+ الخط -
تشغلني الرواية في الحلم أكثر ما تشغلني في الواقع، من دون أن أمسكها، لا في الواقع، ولا في الحلم. الحلم دائما ناقص، وبالطبع الرواية دائما ناقصة، ولذا لا أكتبها، بل أتحنث لها من دون أن أتحقق من تلمسها. 
أنا خائن لها، حتى في حلمي، وخائن لها في الواقع. أنا ألضم هواجسي، إن لم أستطع كتابتها، فتكون كتابا. فعلتها في تجربتين، سيرة ذاتية لخطواتي المبتورة، ولم أطردها من أحلامي، بل هي التي طردتني من جرّاء كسلي، حتى تجاوزت الستين، ولم أقدر أن أتحمل دلعها – الرواية.
أنا عاشق ملول، وليس عندي أي صبر على الدلع. الرواية حبٌّ ناقصٌ يدّعي الكمال، هل لذلك هجرها بورخيس؟ لا أحب السوق، فقط أحب الكتابة، قد أكون متجنيا، لو قلت أحببت قصص نجيب محفوظ أولا، وخصوصا "حكايات حارتنا"، وأعتبرها أول "كتابة عفوية" خارج التجنيس، فلا هي قصة، حسب معمل التعقيم الشكلاني، ولا هي حكايةٌ وفقا لشروط الحكايات الشائعة، مثل "يحكى أن تاجرا من اليمن جاء إلى عين الصيرة بعدما مر بالحجاز.. إلخ"، وإن عنون الكتاب بـ "حكايات حارتنا"، ظللت، في بداية حياتي، فرحا بطزاجة هذا الكتاب، وعلّه هو الذي قرّبني للكتابة. ونحن، أولاد الحكايات في الجنوب، تربينا على الحكاية وألغازها، وخصوصا في طرق الحكي، سيما إذا حكاها الماهر في الحكي، وكان نجيب محفوظ ماهرا، فما بالك ومن يكتبها يكون بلا مهارةٍ في الأسلوب أو الألغاز؟
صعبٌ أن نقرأ لعبيط ونتعذّب عذابين، ولذا فالأحلام هي سيدة أسرارنا الأولى والأخيرة، والرواية من غير حلم مجرد حكايات ومعارف وألغاز فاشلة على قارعة الطريق، يغترف منها الغرير والمبتدئ من دون أن يرتوي، ومن دون أن يقدّم كتابة. وأسأل نفسي مرارا: لماذا أحببت رواية "النفق" لأرنستو ساباتو، و"الطريق" لنجيب محفوظ، هل لأن كل واحدة منهما كانت تحكى من دهاليز حلم ما؟ وأسأل نفسي سؤالا آخر، لماذا اختار نجيب محفوظ، في آخر عشرين سنة من عمره، أن يتفرغ فقط لكتابين وحيدين، "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة"، فقط لا غير، بعدما صارت الرواية مشقةً يصعب تحملها على رجلٍ تعدّى الخامسة والسبعين، وأثر عليه حادث بشع كاد أن يودي بحياته؟
أتخيّل الرجل، وقد وصل إلى هدوء شاطئ أواخر عمره، بعدما أصبح سوق الكتابة لا يؤثر عليه، لا بالمنافسة، ولا بدخول السباق، بعدما حصل على أعلى جائزة في الأدب (نوبل)، بمعانيها، الأدبي والنفسي والمادي أيضا. هل حينما يصل الكاتب إلى الصفاء والاتزان، يكتب كما يحلو له من دون الحاجة إلى بهارات السوق، وأتربة الأحصنة في أسواق الرهانات والوهم، ونجيب من يومه لا ينظر إلى الأوهام، حتى في معاشه وبيته ووظيفته، بل هو موظف بسيط، حتى لم يجازف بالسفر طوال حياته، إلا بالأمر الرئاسي من جمال عبد الناصر إلى اليمن لشد أزر جنودنا هناك. رجل لم يذهب إلى الصعيد، ويمشي في بلاده، كيف يكون مزاجه وهو يسافر إلى اليمن، في طائرة عسكرية وفي وقت حرب؟ 
إذن، كان نجيب محفوظ يبحث عن أحلامه، وعما تحت قدميه في حوالي ستة كيلو مترات فقط من مصر القديمة، من دون التورّط في أوهام بعيدة، أو جغرافيا قصيّة، لم تكن تعنيه، أو تحرك أحلامه. كان يحلم، في الكتابين الأخيرين، بما تبقى لـ"عبد ربه التائه"، من أحلام وبقايا ملذات اندثرت في جلسات الأنس والمزاج، يعيد إنتاجهما في شذراتٍ كما في أصداء السيرة، أو في شكل أحلام حقيقية، أو أحلام تم "الشغل عليها"ـ كما في أحلام فترة النقاهة.
أعاد نجيب محفوظ إلى الأحلام دورها السحري داخل الكتابة، تاركاً السوق في الرواية لأجيال أخرى، تجرّب أقلامها في مضمار السباق.
في نهاية أعمارنا، بعد أن نكتفي، أو نتوهم بالاكتفاء، ننظر إلى العالم بحكمة من وصل إلى يقينٍ ما، يقين الخروج من المنافسة، والوصول إلى مفاتيح حكمةٍ، في الحلم، أو في القول، أو حتى في تأمل شاطئ ما، أو الاستقرار إلى ركن ما في مقهى، أو في شرفة منزل، بعدما هدأت المعارك كلها وانفض الزحام، وقد صار الحلم، أو رشفة من فنجان قهوة، الركن الأخير من الدنيا، بعدما هدأت الضحكة التي كانت مجلجلة.
في آخر أيام محفوظ، دخل الرهان من دون نيّة، بعدما تخفّف من ثقل الدنيا، والكتابة فقط تناوشه كحلم، إلا أنه كسب رهان الزهد والكتابة معاً في كتابين، لم يكن يحلم أن يكتبهما، حتى وهو في ميعة المجد وفتوة الجسد.