الجزائر على موعد مع عشرية بيضاء

الجزائر على موعد مع عشرية بيضاء

14 مارس 2019
+ الخط -
نجحت الجزائر في اختبار الربيع العربي بجدارة، بقدر ما رسبت الثورة المضادة. لم نشاهد التخريب والتدمير والقناصة المجهولين الذين يصطادون المتظاهرين، ولا المدرّعات العمياء التي تجتاحهم. غاب المندسّون، وعملاء السفارات، ولم يُر أثر للتكفيريين والمتطّرفين. أزهر الربيع مجدّدا وكأننا في 2011، وربما هذا كان من حوافز أهالي درعا، بعد كل القتل والتدمير والتشريد في سورية، إلى التظاهر مجدّدا "عاشت سورية ويسقط بشار الأسد.. سورية لينا ما هي لبيت الأسد".
لا يعكّر من مشهد النصر البديع تحذيراتٌ من المحاولات الالتفافية، والتذكير بالعشرية السوداء، فالشارع ناضج، واستمر الطلاب بالتظاهر، ولم تخل الشوارع من المتظاهرين، تحتاج الجزائر إلى النظر في المرآة الخلفية، لا الاستدارة إلى الخلف، فالعشرية السوداء هي خبرة تحصّن الجزائر من تآمر الثورة المضادّة، ونظرة إلى الوراء كافية، ويبقى المسار إلى الأمام بسرعة وعزم من دون تردّد.
يستطيع العرب أن يتعلموا من الجزائر أكثر مما تتعلم منهم. في عقد التسعينيات، قضت على تجربتها قلة خبرة الإسلاميين والعسكر بالعملية الديمقراطية. اغترّت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقوة شعبيتها، ورفعت شعارات "لا ميثاق ولا دستور قال الله قال الرسول". في المقابل، اغترّ العسكر بقوتهم ونفوذهم، ودفعت البلاد دماء مائتي ألفٍ من أبنائها في صراعٍ مدمر.
الجيل الذي صنع التغيير في الجزائر ولد بعد العشرية السوداء، ويشبه الجيل الذي نشأ بعد الحرب الأهلية الإسبانية، وصنع التحول الديمقراطي في إسبانيا. يستطيع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أن يكون كالملك خوان كارلوس تماما، كما يستطيع أن يكون كعبد الفتاح السيسي. والمأمول أن يكون كالأول، فقد تمكّن، في سنوات حكمه، من إخضاع الجيش الجزائري والاستخبارات العسكرية للقرار السياسي. مع ملاحظة أن هذا الجيش هو بطل التحرير، وصانع استقلال الجزائر، وقاهر الإرهاب لاحقا.
تحققت المهمة الأصعب في الجزائر، جيش خاضع للقرار السياسي. التحدّي الآن بناء نخبة سياسية قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية. وهنا يحضر الدرس الإسباني، إذ تمكّنت النخبة من محاربة التطرّف والانقسام في صفوفها، وساعدت الملك والملك ساعدها. وبالمناسبة، هناك إلى اليوم من يقول عن الملك إنه فاسد. في النهاية، من ينجح هو الأقدر على تقديم التنازلات الكبرى في وقتها، وللمصلحة العامة، لا لمصلحة فئوية وشخصية.
يعتمد نجاح المرحلة الانتقالية على مقاومة المتطرّفين والاستئصاليين في الطرفين، فشعار إلغاء المادة الثانية من الدستور"الإسلام دين الدولة" يتطابق مع شعار "لا ميثاق لا دستور قال الله وقال الرسول"، وهو الشعار الذي نتج عنه أول الدواعش (الجيا، الجماعة الإسلامية المسلحة)، وثمّة دواعش علمانيون حليقو اللحى. على القوى الإسلامية والعلمانية أن تنقّي صفوفها من المتطرّفين، حفاظا على التجربة. ولا شك أن القوى الأساسية نضجت، ولذا نجد القيادي في جبهة الإنقاذ الإسلامية، علي بلحاج، يتبنّى خطابا معتدلا وسلميا وتوافقيا، على الرغم من الإساءة إليه، ومنعه من النشاط السياسي.
لا تعني المرحلة الانتقالية خروج بوتفليقة من المشهد معزّزا مكرما فقط، بل خروج مرحلة التفرّد بالقرار لصالح دولة التوافق والمشاركة. ليست المهمة على عاتق الحكم والنخب التقليدية، المهمة الكبرى على الشباب الذين خرجوا في الميادين والشوارع، هم أمل الأمة، وليس أمل الجزائر وحدها، عليهم أن يلينوا بين أيدي بعضهم، وينتقلوا من مرحلة العفوية والبراءة إلى مرحلة التنظيم والتخطيط، وهذا أكبر ضمان لعشريةٍ بيضاء، تليق بتضحيات الجزائريين.
83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
83B64D8F-BC3E-45BA-96A2-36C353D769E9
ياسر أبو هلالة

كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.

ياسر أبو هلالة