رياح الأوراس

رياح الأوراس

11 مارس 2019

الأخضر حامينا في منزله وملصق "رياح الأوراس" (11/2/2017/فرانس برس)

+ الخط -
كأن الجزائر على موعدٍ دائم مع القدر الصعب. دخلها الفرنسيون من منطقة سيدي فرج، قرب العاصمة، وبعد قرنٍ وثلث القرن أخرجهم الجزائريون، بتصميم مسبق، من المكان نفسه على البحر المتوسط الذي اعتبره الجنرال دوغول بمثابة نهر السين الذي يفصل شطري باريس. هذا الجنرال الذي له حصة كبيرة في هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، اضطر أن ينحني أمام الثورة التحريرية التي بدأت عام 1954، وخلّدها السينمائي الأخضر حامينة بفيلم ريح الأوراس. وسحب دوغول جيوشه تحت مقولة ذهبت مثلا "سلام الشجعان"، والتي تعني في العمق اعترافا ملتويا بانتصار الجزائر على فرنسا.
ربيع الجزائر سبق سقوط جدار برلين بأكثر من سنة، وحل في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1988. يومها أسقط الجزائريون، ومن دون رجعة، الحزب الواحد، جبهة التحرير الوطني، الذي حقق الاستقلال عن فرنسا عام 1962. في ذلك الوقت، انقسمت مشاعر الجزائريين، وتمزّقت بين ماض وطني عريق ومستقبل تنشده أجيال هذا البلد الذي يستحق حياة أفضل، حرية وكرامة ورخاء. كانوا يهتفون ضد الحزب الذي رفع السلاح، وطرد فرنسا الاستعمارية في زمن قياسي هو أقل من عشر سنوات، وأجبرها على توقيع اتفاقاتٍ لم توقعها مع بلد آخر، تجاوزت في مضامينها وحواشيها الهزيمة، وإنْ لم تعترف بالمسؤولية التاريخية. وحتى يومنا هذا، بقيت هذه القصة مثل غصّةٍ في نفوس الجزائريين الذين يريدون من فرنسا أن تعتذر عن ماضيها الاستعماري شرطا لعلاقة ندّية، وفرنسا لا تقبل ذلك. ولخص الكاتب الجزائري، كاتب ياسين، تلك العلاقة بقوله "نكتب بالفرنسية بوصفها غنيمة حرب"، وبمثابة رد النكاية. وجاء كلامه هذا بعدما اعتبر الوسط الثقافي الفرنسي، وفي الطليعة جان بول سارتر، أن رواية "نجمة" لياسين أفضل عمل بالفرنسية لكاتب غير فرنسي.
لم تتنفس الجزائر هواء الاستقلال سوى وقت قصير، وسرعان ما سطا عليها الجنرالات الذين لم يحاربوا، كما هو حال سورية ومصر وليبيا والسودان. ترك هؤلاء الثكنات، ونزلوا نحو الأسواق يعملون في التجارة والسمسرة مع الخارج. والبنادق التي توجهت ذات يوم ضد المستعمر صارت موجهةً ضد أهل البلد الذين باتوا يبحثون عن لقمة الخبز وسط بلاد غارقة بالثروات، وجغرافيا تفوق مساحة فرنسا ثلاث مرات، تفيض بكل ما هو جميل ومعطاء. تمت سرقة الثورة بسرعةٍ قياسية، وتحول جيش المجاهدين إلى فقراء وعاطلين من العمل. ومنذ رحيل هواري بومدين في أواخر عام 1978، أخذت الجزائر تغرق في الفساد المنظّم الذي تديره مافيات عسكرية وأمنية. وكي تضمن هذه المافيات الاستمرارية، سيطرت على الأداة السياسية، وهي حزب جبهة التحرير، وحوّلته إلى أداة للسيطرة على الحكم وتشريع الفساد باسم إرادة الشعب في أكبر عملية احتيال منظم.
قطع الجيش الطريق على الربيع الجزائري الأول الذي قاد عام 1988 إلى مسار ديمقراطي، وانفتاح سياسي، تمثّل في التعدّدية الحزبية والإعلامية وعودة السياسيين المنفيين، وكان على رأسهم أحمد بن بله في أكتوبر/ تشرين الأول 1990، وحصلت الانتخابات البلدية في 1990 وتلتها الانتخابات التشريعية في نهاية 1991، التي عطل الجيش نتائجها في مطلع عام 1992 وشن حربا على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لأنها جاءت في الطليعة، وهو ما قاد إلى انفجار الموقف، واندلاع حربٍ أهلية أدت إلى سقوط قرابة مائتي ألف قتيل، وعرفت بسنوات الجمر، التي لعب بوتفليقة دورا في إطفاء جذوتها حين وصل إلى السلطة بقرار من الجيش عام 1999.
تنزل الجزائر إلى الشارع، كي تقول لا للولاية الخامسة لبوتفليقة. وهي تعبر عن ذلك بصورة سلمية، أبعد ما تكون عن وقائع سنوات العشرية السوداء، لكن جنرالات الظل ينصبون لها الكمائن من جديد.
1260BCD6-2D38-492A-AE27-67D63C5FC081
بشير البكر
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد