الهند وباكستان.. العداء جزءاً من "الهُويّة"

الهند وباكستان.. العداء جزءاً من "الهُويّة"

02 مارس 2019
+ الخط -
عاشت أجيال من الناس في شبه القارة الهندية وفي آسيا وفي أنحاء مختلفة من العالم على وقع النزاع "الدائم" بين الهند وباكستان. وخلال فبراير/ شباط الماضي، تجدّدت أنباء عن إسقاطٍ متبادلٍ لطائرات حربية، وقبل ذلك إغارة هندية على ما سمته الهند معسكرات تدريب لـ"جيش محمد"، وهي مجموعة كشميرية مسلحة، تسعى إلى استعادة الجزء الهندي من كشمير، وضمه إلى باكستان. وقبل ذلك، قامت هذه الجماعة بعملية عسكرية خاطفة داخل الجزء الهندي، أسفرت عن مقتل 16 جنديا هنديا. وبينما يقترن اسم كشمير بأقمشةٍ فاخرةٍ، وبربوعٍ سياحيةٍ زاخرة بالأنهار والوديان الخضراء، تستهوي بمشاهدها الناظرين، فإن الخلاف الموروث عن هذه المنطقة الحدودية أذكي النزاع بين البلدين. وكان الاستعمار البريطاني قد قسم كشمير بين الهند وباكستان، ما جعلها منطقةً ملتهبةً، من دون أن يشفع لها جمال طبيعتها بوقف العمليات الحربية المتبادلة، وبعض هذه العمليات يتخذ من كشمير ساحة وهدفاً له، غير أن طرفا ثالثا، هو الصين، يملك بدوره أسانيده الخاصة التاريخية والجغرافية والقانونية حول حقوقٍ له في أجزاء من المنطقة، وحيث يسيطر بالفعل على مقاطعتين منهما منذ منتصف القرن الماضي، غير أن مدار النزاع ينحصر بين الهند وباكستان، وثمّة تحييد راسخ وحياد ثابت للطرف الصيني، يمليه "ميزان القوى" بين الأطراف الثلاثة. وظلت الصين على علاقةٍ وثيقة مع باكستان، كجزء من إرث المنافسة الصينية السوفييتية على النفوذ، فيما تنسج الهند علاقاتٍ قويةً مع روسيا منذ العهد السوفييتي. وحتى تاريخه، لم ينعكس التقارب المضطرد بين موسكو وبكين، منذ أواخر القرن الماضي، على صراعات شبه القارة، ومحاولات التهدئة فيها. 
هناك الآن مخاوف من اتساع النزاع بين الجانبين، الهندي والباكستاني، وذلك في أجواء السيولة الدولية، ولتعمّق خلافات البلدين اللذيْن يحتفلان في أغسطس/ آب كل عام باستقلالهما عن بريطانيا منذ العام 1947، ويتغذّى النزاع على فجوةٍ ثقافيةٍ كبيرةٍ بينهما، لكون الهند بلداً متعدّد الأديان، بأغلبية هندوسية، بينما باكستان بلد متعدّد الأعراق و"جمهورية إسلامية"، ولمشاعر الهنود بأن باكستان هي في الأصل جزءٌ من الهند الكبيرة اقتطعها الاستعمار، ولأن 
باكستان تدرك أن اختلاف الحجوم يغذّي نزعةً إمبراطوريةً لدى جارتها اللدودة (الباكستانيون زهاء 190 مليون نسمة مقابل ما يزيد على مليار و350 مليون هندي). ولكن يجمع بينهما في الميزان العسكري أنهما بلدان نوويان، الى جانب الجار الصيني الذي يمتلك قوة نووية كبيرة.
وبينما يبدي الطرفان عدم رغبتهما في زيادة التوتر أو توسيع نطاق العمليات المتبادلة، فإن أقل حادثٍ يُواجه بردٍّ عنيف من الطرف الآخر، مع إيقاظ المشاعر القومية، والتغنّي بالثقة بالقدرات الذاتية الدفاعية. ومن السمات المأساوية لهذا النزاع أن منطقة كشمير المقسّمة، إذ تقع ضحية للنزاع (سكانها نحو 16 مليون نسمة)، فإنه لا صوت يُسمع للطرف الكشميري، علما أنها كانت إمارة شبه مستقلة قبل قرن من استقلال من الهند وباكستان، وتعاقب على حكمها ملوك مسلمون. وحتى الآن، فإن 85% من سكانها يدينون بالإسلام، بمن في ذلك سكان الجزء الهندي. أما "جيش محمد"، فأسّسه هندي مسلم (مولانا مسعود أزهر) أواخر القرن الماضي، ويدعو إلى إعادة كشمير إلى باكستان، ويتخذ هذا "الجيش" لنفسه أسماء أخرى منها: المرابطون، فرقة أفضل غورو، وطريق الفرقان. وتحظر السلطات الباكستانية هذا الجيش المصنف إرهابيا لدى الأمم المتحدة، وسبق له أن قام باعتداءاتٍ على معسكراتٍ باكستانيةٍ، وبمحاولة اغتيال الرئيس الأسبق، برويز مشرف، عام 2003، إلا أن الهند تعتبر أن باكستان توفر ملاذا لهذه المجموعة، وهو ما تنفيه إسلام أباد بشدة، غير أن استمرار العمليات داخل الجزء الهندي، والتي ينسبها "جيش محمد" لنفسه، وكذلك العمليات التي تقول دلهي إنها تستهدف معسكراتٍ لهذا "الجيش" داخل الأراضي الباكستانية، يُبين أن هناك مشكلة جدّية، تتعلق بهذه المجموعة المسلحة، وتنجم عنها احتكاكاتٌ بين البلدين، كما جرى في الأسابيع الاخيرة، وذلك في آخر تتويج للتوترات شبه الدائمة بين الجانبين، وحيث اقترن استقلال كل من الهند وباكستان عام 1947 بوقوع حربٍ بينهما. ولهذا، فإن استقلال كل بلد منهما يبدو في 
الذاكرة الوطنية الجمعية هنا وهناك، وكأنه يظل ناقصاً بدون استحضار المواجهة مع البلد الجار.
ومع ذلك، يشهد تاريخ التوترات بين البلدين أن العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي قد عرفت هدوءاً نسبيا ومديدا، وبدون توتراتٍ جدّية، وهي مرحلة تستحق الالتفات إليها في تاريخ البلدين والتأسيس عليها. وأنه من المهم، إلى ذلك، نزع عامل الإرهاب من العلاقة بينهما، سواء كان هذا الإرهاب مجرّد ذريعة أو واقعاً قائماً، وسواء تم تضخيمه أو الاستخفاف بخطره، ففي جميع الأحوال، من المهم أن تنهض علاقات الجانبين وفق العلاقات الدولية (بين الدول) بدون السماح لطرفٍ ثالثٍ بأن يقرّر مصير العلاقة بينهما، أو يحدّد وجهتها، وخصوصا حين يكون هذا الطرف مجموعةً مسلحةً، لا معايير لأنشطتها سوى معاييرها الذاتية، وكذلك لا قيد عليها سوى رؤاها ومطامحها وحساباتها الخاصة.
وإذ يملك البلدان موارد بشرية وطبيعية كبيرة، فإن كلا منهما ينوء بمشكلاتٍ اجتماعيةٍ وصعوباتٍ اقتصاديةٍ جمّة، جنبا إلى جنب مع فرص اقتصادية كبيرة، وتغذية النزاع بينهما بسباق التسلح، وشحنه على الدوام بمشاعر قومية ودينية متأججة، لن يؤدّي سوى إلى توتراتٍ دائمة، تنعكس بالسلب على الشعبين، فيما أدى حل مشكلات داخلية، ومع الجوار في دول آسيوية أخرى، قريبة وبعيدة عن الهند وباكستان، إلى تبوّء تلك الدول مكانةً مرموقةً في الازدهار الداخلي، وفي سلسلة الاقتصاد العالمي، فيما لم تكن تلك الدول في جنوب القارة وشرقها شيئا يُذكر، حين انتزعت الهند وباكستان استقلالهما قبل نحو سبعة عقود.