السوريون ومتلازمة المحتال المعكوسة

السوريون ومتلازمة المحتال المعكوسة

02 مارس 2019

من فيلم طلال ديركي "عن الآباء والأبناء"

+ الخط -
على مدى ثمان وأربعين دقيقة، يقدم المخرج السوري الراحل، عمر أميرلاي، شهادات ومقابلات مع تلاميذ في المدارس ومسؤولين حكوميين ومدرّسين، يردّدون في شهاداتهم وحواراتهم شعاراتٍ حزبيةً وهتافاتٍ تمجّد الرئيس حافظ الأسد، ويتحدّثون عن الإنجازات الكبيرة للسيد الرئيس وللبعث، في الوقت الذي تعرض فيه كاميرا المخرج الدمار والتهميش الذي تعاني منه قرية الماشي، وهي إحدى القرى التابعة لمحافظة الرّقة السورية، والتي لم تكن سوى نموذج عن طوفان الدمار النفسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أغرق به نظام الأسد المجتمع السوري عموما.
بالتأكيد، حينما استخدم عمر أميرلاي كاميرته لتوثيق شهادات وآراء من حضروا في فيلمه الذي منع من العرض في سورية زمنا طويلا، مثل معظم أفلامه، لم يخبر شخصيات الفيلم أنه سوف يصوّر فيلما ضد النظام السوري، ومن البديهي أنه لم يطلب منهم قول ما قالوا له، إذا كان خطابهم هو خطاب غالبية السوريين العلني في ذلك الوقت، ترك أميرلاي لشخصياته أن تقول ما اعتادت قوله وترداده، من دون تدخلٍ مباشر منه. والمؤكد أنه، في مونتاج الفيلم، اختار من الكلام الذي تسجل من المشاهد التي تم أخذها ما يتناسب مع ما يريده من فيلمه، مع رؤيته الفنية والثقافية والسياسية، حتما لم يكن حياديا في أثناء المونتاج، مثلما لم يكن حياديا تجاه الشخصيات التي اختارها. هل يمكن القول إن عمر أميرلاي تحايل على الشخصيات التي اختارها لتتحدّث في فيلمه؟ هل خدعها حينما جعلها في الفيلم نماذج عن الانهيار المجتمعي السوري؟ هل كانت تلك الشخصيات التي تحدثت أمام كاميرا مخرج معارض كما لو أنها تتحدّث أمام شاشة التلفزيون الرسمي تدرك أصلا أن من يصوّرها ويستنطقها هو مخرج معارض للنظام الذي تمجّده في حديثها؟
ما الذي كان سيحدث لو أن أميرلاي أخبر الناس في قرية الماشي أنه يصور فيلما ضد النظام، وضد الخطاب الذي يصحون وينامون عليه، وضد كل الخوف الذي تأصل في اللاوعي الفردي والجمعي لديهم، هل كان أحدٌ منهم سوف يقبل أن يشارك في التصوير أو أن يتحدّث كلمة واحدة؟ هذا إذا لم يتبرّع أحد ما، ويخبر الأجهزة الأمنية، وقتها، بما يحدث، ويبلغ عن أميرلاي وفريقه، بوصفهم أعداء للوطن ومتآمرين وعملاء للصهيونية، وهي أقل التهم التي كانت تطلق على كل من يعارض نظام الأسد. لم يتطرّق أميرلاي في فيلمه إلى العوامل الاجتماعية التي نشأت فيها شخصياته، حتى تحولوا إلى ببغاوات تردّد الكلام ذاته، قدّمهم كما هم، تاركا للمشاهد أن يحلل ما يرى.
ما الذي فعله طلال ديركي، المخرج السوري الشاب، في فيلمه "عن الآباء والأبناء" الذي استطاع الوصول إلى ترشيحات الأوسكار، بعد سلسلة طويلة من الجوائز الدولية، أكثر مما فعله عمر أميرلاي في أفلامه كلها، أو أكثر مما يفعله عادة مخرجو السينما الوثائقية في أفلامهم؟ وضع طلال ديركي فكرة واحدة لفيلمه، واشتغل وصور على أساسها، في ظل حربٍ قاهرة، وفي ظل سيطرة تنظيماتٍ جهاديةٍ على منطقة الشمال السوري التي صوّر بها الفيلم، من الطبيعي أن يلجأ إلى المواربة والتحايل، كي يتمكّن من التصوير، من الطبيعي أن يشتغل في المونتاج على ما يريده من فيلمه، من الطبيعي أن لا يركز على تفاصيل أخرى، قد تكون أكثر أهميةً من فكرة الفيلم نفسه، لكنه فيلمه وفكرته، مثلما كانت فكرة أميرلاي وفيلمه، وأنا هنا لا أعقد مقارنات بينه وبين أميرلاي، ولا أضعهما في ميزان التفضيل أو المساواة الفنية، ليس هذا من اختصاصي، أنا أبيّن الجوانب التي جعلت بعض السوريين يهاجمون طلال ديركي، وينعتونه بأسوأ النعوت والأوصاف، بينما يمجّدون آخرين فعلوا الشيء ذاته.
يخيّل إلي أحياناً أننا، نحن السوريين، مصابون بما تسمّى متلازمة المحتال (imposter) ولكنها معكوسة، أي هي ضد الآخرين لا ضد أنفسنا، ولمن لا يعرف هذه المتلازمة فهي "عقبة تؤثر على أشخاص عديدين ناجحين ومبدعين، ما يجعلهم يشكون في قدراتهم الخاصة، ويمتنعون عن الاستمتاع بالنجاح الذي يحظون به". ليست الاتهامات التي تعرّض لها طلال ديركي، ومنها العمالة للنظام، وعدم الخروج من أقلويته (الكردية)، والتسلق على مآسي بيئات الثورة، واستغلال الثورة للظهور والبروزة، وما إلى ذلك من تهم عجيبة، سوى واحدة من الحالات التي تتكرّر مع السوريين لدى أي نجاح أو ظهور لسوري معاصر، يبدو أن القرب حجاب فعلا، يحجب الإيجابيات والسلبيات معا!
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.