''ماراكانازو'' في نسخةٍ عربية

''ماراكانازو'' في نسخةٍ عربية

07 فبراير 2019
+ الخط -
احتضن ملعب ماراكانـا الشهير، في ريو دي جانيرو في البرازيل، في 16 يوليو/ تموز 1950 المباراة النهائية لكأس العالم في كرة القدم بين منتخبي البرازيل والأوروغواي. كان منتخب السامبا بحاجة للتعادل، فقط، ليتوّج بطلا للعالم. ولذلك، سادت حالة من الثقة الزائدة بين الجمهور البرازيلي، وسبقت المباراة أجواء احتفالية صاخبة، وانبرت وسائل الإعلام للاحتفال بالفوزِ في مباراةٍ لم تُلعب بعد. انتهى شوط المباراة الأول بالتعادل السلبي، ومع بداية الشوط الثاني سجل البرازيليون هدفا، سرعان ما ردَّ عليه الأوروغوانيون بهدف التعادل. وفي الوقت الذي كان يعتقد فيه الجميع أن المباراة تسير نحو التعادل، انسلّ نجم منتخب الأوروغواي، آنذاك، ألسيديس غيغْيـا من جهة اليمين ليفاجئ الحارس البرازيلي بتسديدة قوية حسمت الموقعة، ومنحت الأوروغواي ثاني لقب عالمي لها. شكلت تلك الهزيمة انتكاسة وطنية مدوية للبرازيليين، وصارت جزءا من ذاكرتهم الكروية، وأطلقت الصحافة على الحدث ''ماراكانـازو'' Maracanaço (نسبة إلى ملعب ماراكانا)، التي أصبحت كلمةً تحيل، في الموروث الكروي الشعبي، على الفريق الذي ينجح في تخطّي عوامل الضغط النفسي والإعلامي (وحتى السياسي!) التي تواجهه في غضون مباراةٍ أو منافسةٍ حاسمة ومصيرية، وحسمِ النتيجة لصالحه بشكل غير متوقع في الغالب.
مناسبة الإتيان على ذلك الحدث الكروي البعيد فوزُ منتخب قطر بكأس آسيا للأمم 2019 التي استضافتها الإمارات أخيرا. ولا مبالغة في الزعم أن هذا الفوز يبدو كأنه نسخة عربية من ''الماراكانازو''، نظرا لما واكبه من تجييشٍ شعبي وإعلامي مضاد من إعلام بلدان الحصار ضد منتخب قطر، وهو ما لفت انتباه معظم وسائل الإعلام الدولية التي فاجأها منسوب التسييس العالي الذي عكسه التعاطي العدواني لإعلام هذه البلدان مع الفريق القطري، خصوصا الإمارات التي استضافت البطولة، في ما يبدو طورا آخر من أطوار الأزمة الخليجية المعلومة.
وتشاء الأقدار أن يجري هذا الطور من خلال مواجهتين جمعتا منتخب قطر بنظيريْه، السعودي (في الدور الأول) والإماراتي (في نصف النهاية)، وفاز فيهما، على الرغم من كل الضغوط والاستفزازات التي تعرّض لها لاعبوه داخل الملعب وخارجه. وكانت المواجهة القطرية الإماراتية الأكثر تعبيرا عن هذا الطور الفريد، فقد مُنع الجمهور القطري من دخول الإمارات لمؤازرة فريقه وتشجيعه، وحتى الجاليات العربية المقيمة في الإمارات حِيل بينها وبين ذلك. وكانت باديةً العدوانيةُ المفرطةُ التي قابل بها الجمهور الإماراتي فوز القطريين في المباراة، وهو يرشقهم بالأحذية والقناني في مشهدٍ يُنبئ باستمرار حالة الانسداد التي تعرفها الأزمة الخليجية، وانعدام أي رغبة، من حُكّام بلدان الحصار، في حلحلتها.
كان مقدار الشحن الإعلامي والسياسي الذي أخذت به الإمارات، ومعها بلدان الحصار، كفيلا بوضع حدٍّ لمسيرة منتخب قطر في الكأس الآسيوية، غير أن الأشياء انقلبت إلى أضدادها بشكل دراماتيكي، وتحوّل هذا الشحن موردا نفسّيا غذّى معنويات اللاعبين القطريين، وجعلهم أكثر إصرارا على المضي نحو المباراة النهائية وانتزاع الكأس، وكذلك كان. وربما كانت الحلقة الأبرز في مسار التسييس هذا ما حدث بعد المباراة النهائية، فالأعراف الكروية المعمول بها، في هذه الحالات، تقتضي وجود مسؤول حكومي رفيع من الدولة المستضيفة للبطولة (غالبا ما يكون رئيس الدولـة) في مراسم تسليم الكأس والميداليات للاعبي الفريقين، الفائز والوصيف، غير أن الإمارات أبت إلا أن تذهب بروحها العدوانية إلى مدىً غير مسبوق من الضحالة الأخلاقية والسياسية، بغياب أي مسؤولٍ حكوميٍّ يمثلها لحظة تتويج منتخب قطر.
في السياق ذاته، قفز إعلام بلدان الحصار على كل التقاليد المهنية في تغطيته الحدث، فصار الخبر الرئيسي ''خسارةَ اليابان نهائي كأس آسيا'' وليس فوز قطر بها، في سعي سيكولوجي (مريض) لتجاهل هذا الإنجاز، والتقليل من أهميته. وبقدر ما كان هذا الإعلام مصرّا على المناكفة في تعاطيه مع منتخب قطر في هذه البطولة، بقدر ما أبْدت قطاعاتٌ واسعةٌ من الجمهور العربي تعاطفا لافتا مع هذا المنتخب طوال مشواره في البطولة، وكأنها، بذلك، تستدعي (عن وعيٍ!) حزمةَ اعتباراتٍ سياسيةٍ دالةٍ على صلة بالربيع العربي، والأزمة الخليجية، واغتيال جمال خاشقجي، والتآمر على فلسطين.