شعب يصارع الماء والهواء

شعب يصارع الماء والهواء

07 فبراير 2019
+ الخط -
في يوم شديد البرودة من أيام نهاية شهر يناير/ كانون الثاني، كانت أول رحلتي إلى هولندا، الثلوج تغطي الأرض في أمستردام، وكل ما هو مسطح على الأرض أو أسطح المنازل، والأشجار على جانبي الطريق تستقبل الثلج الساقط على سيقانها وأغصانها العارية من الأوراق.
كنت أمام منظر بديع، وخاصة لأمثالي ممن لم يتعود عليه في بلاده، ولكنه مع جماله معيق للحركة. وعلى الرغم من تلك الإعاقة أرى أمامي خلية نحل من البشر؛ مارّة يمشون بغاية الجدية صوب جهات عملهم، متدثرين بثيابهم وهم يحملون مظلاتهم للحماية من الثلوج المتساقطة من السماء، وأسراب غيرهم من راكبي الدراجات، رجال ونساء وكبار وصغار، هذا يحمل حقيبته بيد ومقود الدراجة بيد، وهذه تحمل أطفالها في صندوق أمام مقود الدراجة لتوصيلهم إلى المدارس. الكل يتسابق في نظام في طريقه لعمله، والدولة توفر في كل شارع رئيسي أو فرعي حارات مخصصة لقيادة الدراجات، وأماكن لوقوفها.
كنت أظن قبل رحلتي أن هولندا مراعٍ خضراء وأرض خصبة، واكتشفت أنها أرض منخفضة عن سطح البحر، تتشكل في عمومها من مستنقعات، ومعرضة للفيضان من بحر الشمال أو من الأنهار.
قبل ثمانمائة عام، لم يكن ثمة تاريخ يذكر للإنسان على هذه الأرض في شمال أوروبا، ما قام به الإنسان على هذه الأرض هو من معجزات القدرة التي أودعها الله في الإنسان، هذه الأرض المخضرّة التي ترعى فيها الماشية التي تدير وراءها أفضل وأكثر المصانع إنتاجا للمنتجات الحيوانية، هي في الأصل كانت مستنقعات استزرعها الإنسان الهولندي عبر عملية معقدة، تبدأ ببناء السدود، ثم شفط الماء، ثم معالجة اليابسة عاما بعد عام من التجفيف والتصريف المستمر للماء في دورة لا تقل عن خمس سنوات، حتى تنبت فيها الحشائش التي تصلح للرعي فقط، وليس الزراعة، حتى الأحياء السكنية التي تراها بين الممرات المائية التي تتشكل منها أمستردام الجميلة وغيرها من المدن، كانت مستنقعات أو جزءا من البحر تم تحويلها إلى أراضٍ للسكنى عبر شبكة من السدود، وما زالت المدن تتمدد وسط البحار والمستنقعات في عملية مستمرة، لا ينتهي أمد تطويرها ليجد الإنسان له مكانا علي هذه المساحة الصغيرة.
هؤلاء السكان الذين نشأوا في صراع مع المياه صاروا بحارة مهرة، ونجحوا على صغر مساحة دولتهم وعدد سكانها في أن يحولوها إلى واحد من أهم موانئ أوروبا، ونجحوا في بناء واحدٍ من أكبر الأساطيل البحرية في العالم في عصرهم الذهبي في القرن السابع عشر، وجابوا به العالم، ووصلوا به إلى أقصى الشرق، ووطأت أقدامهم الأرض الجديدة (أميركا)، وبنوا "نيو أمستردام" التي تم تغير اسمها فيما بعد إلى نيويورك.
بل ذهب الامبراطور الروسي، بطرس الأكبر، إلى بلادهم متخفيا لنقل أسرار بنائهم لأسطولهم البحر. وكما طوّعوا المياه، طوّعوا الهواء والرياح، وتفوقوا في بناء طواحين الهواء التي شكلت طفرة هائلة في عالم الطاقة منذ ثلاثة قرون. وتقوم فكرتها على تحويل طاقة الرياح إلى طاقة محرّكة، تنتقل من شفرات مراوح متصلة بعامود يتحرّك دائريا مع تحريك الرياح للشفرات، ويقوم بدوره بنقل الحركة إلى قرص حجري ضخم عبر سلسلة من التروس، وبحركة الحجر الدائرية على سطح ثابت يتم طحن الحبوب، سواء القمح لإنتاج الدقيق أو البن لإنتاج مسحوق البن أو بذور الكتان وغيرها لإنتاج الزيت، وغير ذلك، كما تستخدم أيضا كمضخة رافعة للماء، وقد مثلَتْ تلك الطواحين طفرة إنتاجية مكّنت هولندا الصغيرة في عصرها الذهبي من بناء قاعدة صناعية ضخمة تفوقت بها على كثير من البلدان الكبيرة والعريقة.
وبعد عصر البخار تراجعت قيمة طواحين الهواء، وعلى الرغم من ذلك ما زالوا يحافظون على ما تبقى منها، ويعتبرونها جزءا أصيلا من تراثهم القومي، ومصدر إلهام جعل هولندا أحد القلاع الصناعية للتربينات العاملة بطاقة الرياح .
هذه هي البلاد التي ننقل عنها إباحة كل المحظورات من جنس ومخدرات، ولكن؛ هذه رؤيتي لها، "ولكل وجهة هو موليها".
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
محمود صقر
كاتب مصري.
محمود صقر