سحر حقيقي.. جداً

سحر حقيقي.. جداً

07 فبراير 2019

(محجوب بن بلة)

+ الخط -
الروايات والقصص القصيرة عالم جميل وواقعي، على الرغم من كل ما يدّعيه أغلب الروائيين والقصاصين، أنها خيال في خيال، أو أنها خيال مع بعض الحقيقة.
لا أصدّق أن كل هذه الشخصيات البشرية التي تمتلئ بها الروايات ليست من لحمٍ ودم، وأنها عاشت أو تعيش أو ستعيش بيننا. لا أصدّق أنها من اختراع الكتاب، وأنهم خلقوها من الفراغ ليجعلوا منها حقيقةً على الورق فقط.
صحيح أن كثيرين منهم يعترفون بأن هناك شيئاً، قليلاً أو كثيراً، من الحقيقة في رواياتهم، لكنني أريد أن أتجاوز هؤلاء، لأقول إنها كل الحقيقة، حتى وإن بدا لهم ولغيرهم غير ذلك لأول وهلة، بل حتى وإن رأى بعضٌ منهم أن في ذلك انتقاصا من موهبتهم في الكتابة الروائية، وأنا لا أتفق مع هؤلاء، إذ يرون أن القصّ هو اختلاق القصص والشخصيات أولا، ثم تأتي حيل الكتابة والتصوير. تلك رؤيةٌ ناقصةٌ جداً لفن القص، بل ولكل الفنون الكتابية الأخرى، فاختيار مادة الكتابة وعناصرها الأولية، على الرغم من أهميته الشديدة لأي كاتب، إلا أنه ليس شيئا مقارنة بقدرة الكاتب على التعامل مع هذه المواد والعناصر، وكيفية تقديمها للقارئ بصورةٍ نهائيةٍ من خلال الموهبة في الكتابة نفسها، وأعني بها الطريقة التي تجدّد ذاتها مع كل كلمةٍ جديدةٍ، وتتخلق وفقا لكل موهبةٍ على حدة، ومع كل نصٍّ جديد، بشكل مختلفٍ عن الآخر.
هذه الشخصيات، أعني التي يصرّح كتابها بأنها مختلقة تماما، ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، موجودة فعلا في مكانٍ ما وفي زمانٍ ما، حتى وإن لم يلتق بها الكاتب ذات يوم ولم يعرفها. كثيرون من شخصيات الروايات التي نقرأها عرفناها سابقا أو لاحقا.. وربما في أزمنةٍ بعيدةٍ جدا عن زمن كتابتها. وهناك من أشار بإصبعه إلى شخصيةٍ معينة، وهو يقرأ روايةً أو قصةً قصيرة ليقول إن هذا فلان أو فلانة. حدث هذا كثيرا بالنسبة لي، والغريب أنه يحدث أيضا في القصص والروايات المترجمة من لغاتٍ وثقافاتٍ تختلف تماما عن لغتنا، وواقعنا الذي نعيشه، ويحتمل أن نجد فيه من الشخصيات ما يمكن أن نصادفه في الروايات المكتوبة منه وعنه مباشرة.
قبل شهور كنت أقرأ رواية مترجمة إلى اللغة العربية من الأدب الكوري. ومع هذا أشرت بإصبعي إلى الشخصية الأولى فيها، وقلت إنها فلانة. نعم فلانة التي ربما لم تسمع بكوريا نفسها. وقبل أيام، كنت أقرأ مجموعة قصصية للصديقة منى الشمري، فوجدُتني، أو وجدت الكثير مني، في واحدةٍ من قصصها القصيرة. وقبل أن أنتهي من القراءة، أرسلت إلى منى رسالة هاتفية: هذه أنا، يا منى. .. لم تستغرب منى كثيرا. ولم أفعل أنا أيضا، على الرغم من أن ما ورد من صفاتٍ للشخصية الرئيسة في تلك القصة لا أظن أن منى تعرفها عني، فلم نكن نعرف بعضنا بعضا عندما كنت أعيش ذلك الواقع البعيد.. كانت منى، في قصتها الجميلة، تتحدّث عن فتاةٍ في مرحلة الدراسة بتفصيلاتٍ تكاد تنطبق تماما على واقعي في ذلك العمر المبكر.
ذهبت مع بطلة القصة إلى زمني القديم، وقرأته مجدّدا، بقلم كاتبةٍ بارعةٍ وكأنني أنظر إلى مرآة سحرية أمامي. عادت بي عابرةً كل تلك السنوات إلى الوراء.. وكانت فرصةً جميلةً ونادرةً لأعرفني من جديد.
تذكّرت بعض دقائق حياتي، وعرفت أسرارها، وتعرّفت أيضا على بعض عقدي النفسية الشخصية التي لا بد أن جذورها تعود إلى ذلك الوقت. أنا الآن هكذا، لأنني كنت، في ذلك الزمان، كذلك. ومنى الشمري التي رسمتني من دون أن تعرفني عالجتني أيضا من بعض عقدي من دون أن تعرفها، وفقا لطريقة العلاج النفسي بالتعرّف على جذر المشكلة، والعيش في زمنها الأول.
من قال إن القص ليس سحرا؟ إنه السحر... الحقيقي جدًا.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.