النصف الثالث الممتلئ من الكأس

النصف الثالث الممتلئ من الكأس

07 فبراير 2019
+ الخط -
(1)
مائة عام من القهر والتخلف والسير في ذيل القافلة تكفي، منذ أن "ثار" العرب على أنفسهم، مستعينين بالقوى التي استعمرتهم في ما بعد على أبناء دينهم وحضارتهم وتاريخهم، أملا في تحقيق حلم الدولة العربية الواحدة، وهم في تيهٍ أين منه تيه بني إسرائيل، وتكفي نظرةٌ بانوراميةٌ لأوضاع الأمة لأخذ صورةٍ تبدو في غاية القتامة والكآبة. ومع هذا، للكأس الذي يبدو فارغا بنصفيه نصف ثالث، يمتلئ بأمل كثير، يمكن أن يراه من لديه القدرة على الرؤية "الماورائية". وهذا ليس مجرد حدس غيبي فقط، بل يتكئ على غير معطىً واقعي، أقله حالة الوعي غير المسبوقة التي تجتاح جيل الشباب العربي، المعوّل عليه في التغيير، نتيجة الانفجار المعرفي التي وفرته وسائل التواصل، والإعلام الشعبي، فضلا عن تمرّد هذا الجيل على شرنقة الخوف التي صنعتها أجهزة القمع والاستبداد في أنظمة العرب، ناهيك عن البذرة المباركة التي زرعتها ثورات الربيع العربي، ولم تزل تتحرّك بحريةٍ في أحشاء العقل الجمعي العربي الذي ذاق حلاوة الحرية، ولو فترة وجيزة، ومن ذاق عرف، ومن عرف غرف!
وإلى هذا وذاك، فأنظمة الاستبداد التي تربض على صدور العرب لم تتعظ بعد من عواقب القهر والجوع، فهي تُمعن في حك جروح الضمير الجمعي العام، وتُسرف في نهب خيرات الأمة، وتجويع شعوبها، فلا هي أطعمتها من جوع، ولا آمنتها من خوف، ما يهيئ الجو للتمرّد عليها، وركلها، وهذا كله وغيره من متغيرات دولية وإقليمية تصنع الفرص لوضع حدٍّ لنهاية مئوية التيه، والاستقلالات الوطنية الكاذبة.
(2)
عقدة العقد في بلادنا العربية: كيان العدو، فهو المكلف دوليا بإدامة حالة السيولة القومية والوطنية، وهدر الكرامة، فقد أنشئ ليبقى خنجرا في خاصرة الأمة، كي تظل تنزف باستمرار، وقد تكالب وكلاء هذا الكيان المحليون، برخصٍ غير مسبوق، وبإشهارٍ يخلو من أي حساب أو حياء، على مده بأسباب الحياة، فأصبح "التنسيق الأمني" السرّي في ما مضى علنيا، وصارت مهمتهم الأساسية حقنه بمغذيات، من دم شعوبهم، كي يستمر في علوه، ولا أجد وصفا جارحا أكثر وخادشا للروح على نحو مؤلم مما خطه قلم الكاتب الصهيوني يوئيل ماركوس في صحيفة هآرتس العبرية: "الطفل البلجيكي المصنوع من البرونز يبول في حوض النافورة في بروكسل. أما زعيمنا من لحم ودم، فيفعل هذه الفعلة علينا". المبكي في المشهد أن "زعيمهم" يفعلها عليهم، وهم يفعلونها علينا، بل على العالم كله.
وفي هذه الصورة المخزية تحديدا، يكمن سر النصف الثالث من الكأس، فعلى الرغم مما يبدو
 عليه كيانهم من علو وغلو في "العظمة"، فهو في أشد حالاته ضعفا، بل لم يسبق لهذا الكيان أن كان بمثل هذه الهشاشة الداخلية طوال سني عمره التي نافت على السبعين. وفي الكلمة الافتتاحية لمؤتمر فلسطينيي الشتات في بيروت قبل أيام، قال الأمين العام للمؤتمر، منير شفيق، إنّه "على الرغم من كلّ ما يُقال حول الوضع السلبي الذي يُخيم على الواقع الفلسطيني، إلّا أنّني مصرٌّ على أنّ هذا الوضع هو الأفضل منذ النكبة عام 1948، إذ إنّ الاحتلال يعاني من أزماتٍ داخلية وأخرى خارجية مع الرأي العام العالمي، حيث أصبح الأخير أكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني بفعل الانتهاكات الإسرائيلية بحقه"، ومع استمرار مسيرات العودة في قطاع غزة على الحدود مع الداخل المحتل، أشار شفيق إلى أنّ غزة تُشكّل اليوم وحدةً وطنيةً ونقطة قوة لم يشهدها التاريخ الفلسطيني، إضافةً إلى القوة التي تشهدها الضفة الغربية المحفَّزة للثورة، على الرغم من التنسيق الأمني المنتشر فيها، وثمّة عشرات بل مئات الشواهد على الأزمة الوجودية التي يمر بها هذا الكيان الذي ظل عقودا يقتات من ضعفنا، وفي اللحظة التي "تعتدل" فيها الصورة في بلادنا العربية، لن يصمد هذا الكيان طويلا.
يقول الوزير الصهيوني السابق يوسي بيلين: فضلت إسرائيل التعامل مع الطغاة العرب لأنهم "براغماتيون يكتفون بدفع ضريبة كلامية في دعم الفلسطينيين. ونحن نرى في دمقرطة العالم العربي خطرا، لأنها تضمن رفع مكانة الرأي العام المعادي لنا".
(3)
ونختم بالذي هو خير...
فقد غرّد أحدهم ذات ربيع قائلا: "أمطري أيتها الثورات حيث شئت، فإن خراجك راجع إلى فلسطين"، وما الربيع الموعود عنا ببعيد.