عن الملكة كليوباترا

عن الملكة كليوباترا

04 فبراير 2019
+ الخط -
ولدت كليوباترا عام 69 ق.م، ونشأت في بيت ملكي، فلبست أجمل الأقمشة، وتحلّت بأروع الجواهر واللآلئ، وتعطرت بأرقى الزيوت والعطور. ولكن وبالرغم من كل مظاهر الترف التي عاشتها في طفولتها، إلا أنها كانت دائما قلقة وغير مطمئنة، فهي تعلم أنها من أسرة بطلمية لا تخلو من المكائد والدسائس؛ حتى أنها كانت تنظر بعين الحسد إلى السكندريات المطمئنات اللاتي كانت تراهن وهي محمولة على أريكتها تمر بشوارع الاسكندرية المزدحمة.
وعلى الرغم من أن كليوباترا هي الابنة الثانية لأبيها بعد برنيكي، وكان يليها أخوان صبيان، ثم أختها الصغرى والأخيرة "أرسينوي"، إلا أن أسرتها تلك لم تعرف مظاهر الحب بين الأخوة والأخوات، على الرغم من أنها كانت على العكس من أخويها وأختيها ذات قلب حنون قادر على الحب، كما كان لها عقل راجح أيضا، وكانت مؤمنة بالمعبودات المصرية بصدق وإخلاص على عكس بطالمة كثيرين، وكانت تذهب في طفولتها إلى هياكل هذه المعبودات لتؤدي الطقوس الدينية مثل أي فتاة مصرية أخرى!
وعندما زادت الضغوط على والدها (الملك الضعيف بطليموس الحادي عشر، الملقب بالزمار لأنه كان يعزف على الناي) من دائنيه؛ فر إلى روما كملك لاجئ، فاستغلت أختها برنيكي هذا الأمر وأعلنت نفسها ملكة على مصر، واحتارت كليوباترا في أمرها، فهي، وإن كانت لا تحب والدها حباً كثيرا؛ إلا أنها كانت مخلصة لفكرة الملكية، وكانت ترى أن أختها اغتصبت السلطة اغتصابا، ولكنها (ولأنها فطنة) لم تظهر مشاعرها تلك.
وبعد ثلاث سنوات، جاءت قوة من روما ومعها الملك (الزمار) وأعادوه إلى حكم مصر، فهربت برنيكي، ومنذ ذلك الحين بدأت المظاهر الحقيقية لجعل مصر ولاية رومانية، ولم يستطع بطلميوس الحادي عشر أن يغيّر من حاله بل سعى إلى الاستدانة، وبدأ يتهرب من المسؤولية أكثر، وكان عزفه على الناي يزداد حزنا مع مرور الأيام. وبعد أربع سنوات وقبل وفاته كتب وصيته بأن تُنصب كليوباترا وأكبر الولدين شريكين في الملك، وأصدر أمرا رسميا بأن يتزوجا إرضاءً لشعور المصريين، ونص في وصيته قائلاً: "إنني أستودع باحترام هذين الاثنين في حماية الشعب الروماني النبيل"!
ولكن الدسائس لم تتوقف بين كليوباترا ذات الثمانية عشر عاما وبين أخيها الزوج الذي يصغرها بثمانية أعوام؛ حيث انتشرت الشائعات بأن كليوباترا عميلة لروما، وأنها سوف تبيع الإسكندرية لقيصر، وأنها فاسدة، وأنها سوف تزيد الضرائب، وأنها تغتصب السلطة من أخيها الزوج، وأنها تتمنى موته، وفعلت هذه الدسائس أفاعيلها؛ فقد استيقظت ذات يوم على محاصرة الجماهير لها ومطالبتها بالتنازل عن العرش، فلم تجد كليوباترا مفرا من الهرب إلى سورية، وهناك جمعت جيشا وعادت إلى مصر من مدخلها الشرقي.
وبعد فترة؛ جاء قيصر روما إلى مصر غازيا، فلم تفقد كليوباترا الحيلة والدهاء، بعدما علمت بضعفه أمام النساء، فاستغلت نقطة الضعف هذه ووصلت إلى مقر إقامته بطريقة ماكرة وعجيبة وخطيرة، حيث جاء أحد الملاحين بمركبه أمام القصر، وطلب من الحراس أن يسمحوا له بأن يسلم البساط الملفوف، والموجود بقاع المركب، إلى قيصر كهدية من أحد الملوك، ولما دخل الملاح إلى قيصر فك البساط فخرجت منها ساحرة مصر الفاتنة؛ فازداد إعجاب قيصر بها ووقع في حبها، وأيدها في حكم مصر بجانب أخيها الزوج؛ الذي لم يكن راضيا بمشاركتها له في الحكم، كما لم يكن راضيا بتلك العلاقة التي جمعت بينها وبين قيصر، فصنع المكائد ضدها بمساعدة شقيقته الصغرى أرسينوي، واستمر السجال وانتهى بانتصار كليوباترا والتخلص من بطلميوس الثاني عشر وأرسينوي.
ولما كان قيصر هائماً بحب كليوباترا التي كانت حاملا منه بطفل؛ فقد أعلن استقلال مملكة مصر بقيادتها، ولم يعد إلى روما التي استدعته؛ فقد كان قلبه معلقا بالملكة الفاتنة؛ التي كانت تريد إنجاب طفل منه لتملك به روما، فكان "قيصرون" ذلك الطفل الناتج من تلك العلاقة، ولكنه لم يكن ابنا شرعيا في نظر القانون الروماني، رغم أن الرومان قد اندهشوا بالملكة المصرية، أو الساحرة المصرية كما كانوا يصفونها، عندما ذهبت إلى روما في موكب خيالي.
وسرعان ما تبخّر حلمها في أن تصبح ملكة على روما؛ عندما قُتل قيصر على يد أحد أتباعه، وتولى بعده الحكم، مارك أنطونيوس، الذي هام هو أيضا بحبها، وتخلّى عن مستقبله في روما ليتبعها إلى الإسكندرية ويستمتع بحبها الذي انتهى بإنجاب طفلين، وهذا ما دفع بقادة جيش مارك أنطونيوس، الذين استبد بهم الحنق بسبب ما كانت تجنيه كليوباترا من هذا الحب إلى الهجوم على الاسكندرية وإلحاق الهزيمة بهما في معركة اكتيوم عام 30 ق.م، فانتحرا معا؛ هو بالسيف وهي بالسم.
ماتت كليوباترا آخر بطالمة مصر ميتة ملكية، ماتت كليوباترا، وهي في التاسعة والثلاثين من عمرها، ودُفنت مع مارك أنطونيوس تنفيذا لوصيتها، ماتت بعد أن طغى حبها في نفوس المصريين؛ وقادة الرومان على السواء، حتى قال عنها المؤرخون: "إنّ سحرها كان يجد طريقه إلى أغوار نفوس الرجال"، ولذا فإن روما كانت تخشاها بعد أن هزت عرشها مرتين.
حسين دقيل
حسين دقيل
حسين دقيل
باحث متخصّص في الآثار، دكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية في مصر. العبارة المفضّلة لديه "من لم يهتم بتراثه ويحافظ عليه فلا مستقبل له".
حسين دقيل