عن تضخّم العبث الفلسطيني

عن تضخّم العبث الفلسطيني

01 مارس 2019
+ الخط -
كل ما حقّقه الزعيم وينستون تشرشل من تأييد شعبي، بعدما قاد بريطانيا العظمى، إلى الانتصار، في الحرب العالمية الثانية، على العدوان الألماني النازي، لم يشفع له، فقد خسر الانتخابات العامة وخرج من مقر رئاسة الوزراء إلى مقاعد المعارضة، واكتفى بمقولته الشهيرة: "الحاكم الممتاز هو الذي يعرف كيف يدخل الحكم، ويغادره، سواء بإرادته أو بإرادة الشعب". ولنا في التاريخ الإسلامي شاهد مماثل، عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القائد خالد بن الوليد عن قيادة الجيش، وولى مكانه أبا عبيدة عامر بن الجراح، وكان ذلك في وسط معركة اليرموك، مع أن خالداً لم يُهزم في أي معركة، وكان الروم يخشوْنه أكثر من غيره. وبرّر عمر، رضي الله عنه، سبب عزل خالد، بقوله: "ما عزلْتُه عن خيانة، ولكن خشيت أن ‏يقال: إنه صانع النصر. أو خشية أن يفتن الناس به".
تقفز حادثتا خسارة تشرشل للانتخابات، على الرغم من انتصاره في الحرب، وعزل القائد خالد بن الوليد، على الرغم من بطولاته، وسط عبثٍ يتضخم في الأوساط الفلسطينية عنوانه "فوّضناك"، مقابل "ارحل"، الأولى موجة يركبها أتباع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، والثانية حملة معاكسة يمتطيها معارضوه. وما بين "فوّضناك" و"ارحل"، يدوخ جل الشعب وسط دوامة أسئلةٍ، في محاولةٍ يائسة لفهم كل هذا العبث واللامعقول، الدائرة فصولهما على المسرح الفلسطيني. هل فعلاً يحتاج الرئيس الفلسطيني تفويضاً من أجل المضي في ما اشتقّه طريقاً ونهجاً منذ نصف قرن؟ ثم مَن خَوّل مَن لمنح تفويضٍ مفتوح، أو شيكٍ على بياض، للرئيس محمود عباس أو غيره، للتصرّف بالشأن الفلسطيني في غياب الشرعيات كلها، أو تغييبها؟ وإذا كان مصير تشرشل الذي عاد إلى الشعب البريطاني بنصر تاريخي، "أقصيناك"، وإذا كان مصير خالد بن الوليد "عزلناك"، فهل من الطبيعي أو المعقول أن يُكافأ محمود عباس بـ "فوّضناك" لقاء كل الفشل الفاحش الذي أصاب نهجه منذ ما قبل أوسلو، وليس انتهاءً بوارسو. ثم أليس في مسيرات التسحيج والأغاني من "فوّضناك يا ريس" إلى "يا أبو مازن بدنا ياك" و"ما نرضى بديلك"، إهانة لعقول ملايين الفلسطينيين ممن حلِموا بدولةٍ فلسطينيةٍ لا عبودية ولا أصنام فيها. وكيف للرئيس الفلسطيني نفسه أن يقبل شعبوية وغوغائية التنظيم/ القبيلة، بينما هو يُناطح العالم بزعمه بناء دولة مؤسسات.
"فوّضناك" و"بايعناك" ليستا الرد المُقنع لإحباط "صفقة القرن"، أو كبح موجات التطبيع المجاني التي تجتاح عواصم عربية. وبالتأكيد، ليستا الأجدى في مواجهة الاحتلال أو حماية الشرعية والرئيس. وكان الأجدر بمن أطلق هاتين الحملتين أن يخرج إلى الشوارع، لمواجهة دوريات الاحتلال التي ترابط على باب دار الرئيس، وتعتقل يومياً عشرات الشبان، وتعتدي على الحرائر المرابطات في المسجد الأقصى. إذا كان أتباع "فوّضناك" مخلصين لرئيسهم حقاً، فعليهم أن يتصدّوا لمشاريع جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات، وسيدهما دونالد ترامب، بتصعيد المقاومة بكل أشكالها، لا أن يرموا كرة اللهب في حضن الرئيس بزعم "فوّضناك"، ويورّطوا الرجل بتفويضٍ لا حول ولا قوة له عليه، وكأن لسان حالهم يردّد مقولة قوم موسى لنبيهم " فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ".
وفي المقابل، ليست حملتا "ارحل" أو "عباس لا يمثلنا" أفضل سلوكاً. وإنما هما وجه آخر للعبث الساري في الجسم الفلسطيني، وتعبران عن حالة العجز التي آل إليها الحال الفلسطيني. ليست حملة "ارحل"، المُتّهمة بالتساوق مع مساعي الاحتلال لعزل الرئيس الفلسطيني، بريئة تماماً، لا سيما في التوقيت، والأوْلى بأصحابها تضميد ما أصاب الجسم الفلسطيني من تقرّحات بدلاً من نكئها.
الصحيح أن يكون التفويض للمقاومة، ولا شيء غيرها جدير به. والرحيل لا يكون إلا للاحتلال ومغتصباته. لا تفويض إلا لمؤسساتٍ شرعيةٍ مُنتخبة تحمل المشروع الوطني، وتعبر عن إرادة الشعب في التحرير والاستقلال، على أساس الثوابت الوطنية، حتى يرحل الاحتلال عن آخره.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.