مينا.. نسر الجنوب وثعبان الشمال

مينا.. نسر الجنوب وثعبان الشمال

28 فبراير 2019
+ الخط -
عُرف الملك مينا؛ بداية من العام 3200 ق.م، فهو مؤسس الأسرة الفرعونية الأولى، إذ حكم مصر من مدينة "منف" التي كانت تُسمّى في المصرية القديمة "من - نفر" أي: البلد الثابت الجميل، وهي الآن "ميت رهينة" بالجيزة.
ظلت مصر لأزمان طويلة مجموعات وقبائل متفرقة؛ استقلت كل منها عن الأخرى، وأقامت بعضها حضارة خاصة بها؛ فرأينا حضارة الفيوم، وحضارة حلون، وحضارة نقادة، وغيرها من الحضارات الصغيرة المتباعدة، وقد تحقق الاستقرار لبعض هذه الحضارات بسبب ارتباطها بالنيل؛ مما ساعدهم على معرفة الزراعة واستئناس الحيوانات، ولما ركبوا النيل الذي سُخر لهم؛ حدث تواصل بينهم وبين غيرهم من تلك المجموعات والقبائل المجاورة على النيل؛ فازدادت الروابط الأسرية بينهم، ونشأت مجموعات وحضارات أكبر، وأدى ذلك إلى التنافس بين الزعماء من هنا وهناك الذين رغب بعضهم في أن تكون السلطة له على الأقاليم الأخرى، فنشبت حروب عديدة تكونت على إثرها بعض الأقاليم الكبرى في جنوب مصر، وأقاليم أخرى بالدلتا، ثم بدأ عدد من زعماء تلك الأقاليم في السعي نحو تكوين اتحاد أكبر بينهم، ونجحت مساعي بعضهم بالفعل فنشأت مملكتان كبيرتان؛ إحداهما بالصعيد والأخرى بالدلتا، ثم بدأ النزاع بين هاتين المملكتين في محاولة لسيطرة كل منهما على الأخرى، وقد نجحت هذه المحاولات في وقت ما؛ عندما استطاعت مملكة الدلتا توحيد مصر تحت زعامتها واتخذت عاصمة لها في "عين شمس"؛ ولكن سرعان ما انفض هذا الاتحاد؛ عندما استطاع حكام الصعيد الانفصال وتكوين مملكة مستقلة؛ ولكن وبمجرّد اعتلاء الملك مينا على عرش الجنوب بطيبة (الأقصر حاليا) استطاع وخلال فترة وجيزة توحيد المملكتين؛ فنال شرف تكوين أول دولة موحدة بمصر، فأُطلق عليه؛ ملك الأرضين، وصاحب التاجين، ونسر الجنوب، وثعبان الشمال؛ كناية عن امتلاكه الحنكة والحكمة والذكاء معا.
لم توجد آثار عديدة للملك مينا، غير بعض القطع والكسرات الصغيرة، فقد عثر له بالدلتا على عدد من الأواني أو بواقي أواني تحمل اسمه، كما وجدت له شواهد عديدة في حلوان وطرة، وعثر له على ختم بإحدى المقابر، كما وجد اسمه منقوشا بمقبرة أخرى، وفي أبيدوس بجنوب مصر؛ وُجد له العديد من الشواهد المماثلة؛ كبعض أجزاء من أواني الألباستر التي تحمل اسمه، كما وجد اسمه أيضا على بطاقات من العاج.
أهم آثار الملك مينا، والتي تعود إلى عصر توحيد القطرين، فهو ذلك الشاهد الذي أستُخرج من الحفائر التي أقيمت خلال بين 1897و 1899 في مدينة "نخن" أو "هيراكونبوليس"، وهي منطقة الكوم الأحمر بين مدينتي اسنا وادفو في جنوب مصر حاليا. وسُمّي هذا الشاهد بـ"بصلاية نعرمر"، ونعرمر هو مينا، وهي تلك الصلاية الحجرية الشهيرة الموجودة حاليا بالمتحف المصري بالقاهرة.
وقد دلل باحثون كثيرون على أنّ صلاية "نعرمر" نُقشت بعد توحيد القطرين، فبها ما يدل على تلك الجهود التي بذلها مينا بعد استقرار المُلك تحت يديه، أو على أقل تقدير فهي عبارة عن توضيح للمراحل الأخيرة للنصر الذي حققه على الوجه البحري، حيث صُوّر على أحد وجهيها، وهو يرتدي تاج الشمال محتفلا بانتصاره علي سكان الدلتا.
ومن الآثار المتبقية للملك مينا بالإضافة للصلاية ذائعة الصيت، هي تلك الرأس الحجرية الكبيرة المعروفة برأس مقمعة "نعرمر"، والتي وجدت بمنطقة "نخن" أيضا، ويظهر عليها الملك مينا وهو يعتلي العرش تحت مظلة عالية أقيمت فوق منصة مرتفعة ذات تسع درجات، خلال حفل كبير تُوّج خلاله، كما هو بالمنظر، بالتاج الأحمر (تاج الوجه البحري) دليلا على سيطرته على الدلتا، ويمسك بيده مقمعة، ويرتدي عباءة كبيرة تغطي معظم جسده، والحجر مليء بالمناظر المعبرة؛ منها ذلك المنظر الذي فسره بعض الباحثين بأنه حفل زواجه من ابنة أمير الدلتا.
وقد عُد الملك مينا كأحد أبرز الملوك المؤثرين في التاريخ المصري القديم، لأنه أول من قام بمبادرة صلح، وأول من عقد اتفاقية سلام بالعالم القديم، وبعد حياة حافلة بالنشاط والحيوية والعمران والوحدة والترابط، مات الملك مينا، وقيل أن نهايته كانت مؤلمة، فقد لقي مصرعه بعضة من فرس النهر حين هاجمه على حين غفلة من حراسه وخدام عرشه.
حسين دقيل
حسين دقيل
حسين دقيل
باحث متخصّص في الآثار، دكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية في مصر. العبارة المفضّلة لديه "من لم يهتم بتراثه ويحافظ عليه فلا مستقبل له".
حسين دقيل