في محنة اللاجئين السوريين

في محنة اللاجئين السوريين

28 فبراير 2019
+ الخط -
السبّاقون الثلاثة الذين طرَدَوا ملايين السوريين من ديارهم: بشار الأسد، بإطلاقه النار والبراميل والصواريخ والشبيحة والمليشيات والمخابرات... على الجموع والمدن والقرى. يليه حزب الله، الحاكم شبه المتوَّج للبنان، ذراع إيران الأقوى، الأكثر تنظيماً، بقتاله العنيد إلى جانب بشار الأسد، بمساهمته في مواقع القتل والتهجير والحواجز، والبطولات المتنوّعة من حصارٍ وتجويع وتهجير لأهالي القرى والبلدات، خصوصاً الواقعة شرقي لبنان. ثم الإرهاب الداعشي، أو أشقاؤه، صنيع الاثنين الأولَين، إلى حدّ كبير.
الآن، "انتصر" الاثنان الأولان، بشار الأسد وحزب الله، على الإرهاب الداعشي. لم يَعُد أمامهما من "عدو"، ولا من ذريعةٍ لإستمرار القتل العلني المنظَّم. جاء وقت الحصاد. ماذا يفعلان بتلك الكتلة البشرية التي طَفَّشوها إلى لبنان؟
إليكم خريطة الطريق التي رسماها، بكل أريحية: يعلن الأسد أنه، بما أن الحرب أشرفت على نهايتها، فمن واجب النازحين السوريين في لبنان، أن يعودوا إلى "حضن" الوطن. حزب الله، بلسانه، أحياناً، أو بلسان حلفائه غالباً، من رئيس الجمهورية إلى صهره وزير الخارجية، يثابران على حثّ "الدولة" اللبنانية (وما أدراك ما "الدولة")، على تنظيم إعادة النازحين السوريين إلى بلدهم؛ بل يسارع حزب الله إلى إعطاء المثل الصالح لـ"الدولة"، فينظّم بنفسه "ملف إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم"، ذلك أن لبنان لا يستطيع تكبّد كل هذا الحمل الذي يخلّ بتوازنه الديموغرافي، وبخزينة دولته المُصانة... إلخ. فيما الروس يقدّمون خدماتهم لهذا وذاك، يعِدون بالحماية، بتطبيق الوعود، بالسهر على القوانين؛ رغبةً منهم في إبقاء "ملف" اللاجئين السوريين، في زاويةٍ يطالونها، يمدّون يدهم إليه عندما يحتاجون.
أنظر الآن إلى الوضع من زاوية اللاجئين أنفسهم. في لبنان، فوق بؤس العيش والخيم والبرد 
والجوع والضياع؛ بتواطؤ أمنه وفوضاه، بالمعاملة الاعتباطية في دوائره الأمنية، بالابتزاز على أوجهه.. يحلمون طبعاً بوطنهم المهجور، ببيوتهم المدمَّرة برزقهم بذكرياتهم. لا أحبَّ على قلوبهم من عودتهم إليه. يصدّق المتلهّفون منهم، أكثرهم تيهاً، أو ربما يريد أن يصدّق، فيسجل اسمه في واحدة من المكاتب، بعد جهد، وربما وسائط، يحزم صرّته، ويكون يوم العودة فرحاً، متفائلاً، مسلّماً أمره لله. ماذا يجد في سورية؟ جهنّم آخر من العيش، يبدأ بالأمن، يمرّ بقساوة اليوميات، ولا ينتهي عند خروق الوعود بالإعفاء، ولو المؤقت، بجرّ شبابٍ مكبّلين بالجنازير لينضموا إلى المسْلخة التي هجّرتهم. بعضٌ من العائدين ممن يملكون مبالغ من المال اللازم، ألف وخسمائة دولار "على الرأس"، عاد فخاضَ رحلة هروبه الثاني إلى لبنان عبر "الحدود غير الشرعية". ما رآه في النواحي التي تمكَّن من زيارتها جعله يشعر بأن لبنان، بكل عذاباته، "جنة على الأرض"، بالمقارنة مع ما لمَسه، ولاحظه، وأحسّ به في رحلة عودته غير الميمونة هذه. الباقون الكُثُر، ممن لا يملكون المبلغ إياه، عليهم التعايش مع الكوابيس، لا خيار. تلك هي حياتهم، فيتصبّرون.
تلخيصاً: بشار الأسد، بالاشتراك مع حزب الله، أخرج عَنوة مليون مواطن سوري من سورية إلى لبنان. وهما الآن، بعد ثماني سنوات على هذا التشريد، و"انتصارهما"، يزعمان إعادة الأمور إلى نصابها. كيف؟ بأن يُعيدا طرد أولئك اللاجئين من لبنان ومن سورية في آن. بأن يعلّقا وجودهم على الحدود بين سورية ولبنان. بأن يدعوهم إلى واحدةٍ من الاستحالتَين: البقاء في لبنان أو العودة إلى سورية.
هذا التلاعب بمصير مليون لاجئ كأنهم كرة يركلون بها خصومهم، أو يمرّرونها لحلفائهم، 
يسترون بها على معاني جرائمهم. كيف يتلقاها اللاجئ الذي من حظه أنه وقع على لبنان؟ كيف له أن يشعر بالمكان؟ بسورية؟ بلبنان؟ أن يكون هنا أو هناك، على هذه الدرجة من القهر وإلغاء الانتماء؟ فيما يُختصر معنى حياته بأن لا بشار يريده في سورية إلا عبداً واهباً حياته لعرشه، ولا حزب الله وحلفاؤه يريدونه في لبنان؟
إنه نوع آخر من الحصار. أعتى من ذاك المعروف، حصار العسكر. إنه حصار ما بعد العسكر: معنوي، روحي، إعلامي.. تبثّه المدينة بما أصابها من "الصواب السياسي"، وباتت تشيع ذبْذبات الرفض لكل سوري، بلا حيلة، أو حتى متوسط الحال، ترمي على أكتافه المرهَقة "أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان"؛ كما كان النازيون يرمون على اليهود، المستَضْعفين وقتذاك، سبب التضخُّم المالي الذي أصاب ألمانيا، عشية الحرب العالمية الثانية. ذبذبات مؤذية، يحتاج اللاجئ إلى جرعةٍ كبيرةٍ من التناسي، لكي لا تطرح عليه أزمة وجودية. وهي أزمةٌ لن يعبّر عنها باللوحات الفنية أو القصائد، إنما بالسلوك والطبائع، وربما أيضا، بتخمير مشاريع مستقبلية، أكثر تطرّفاً مما سبقها؛ لدى كل الأجيال، حتى التي لم تولد بعد.