في تحويل الغضب إلى طرب

في تحويل الغضب إلى طرب

28 فبراير 2019
+ الخط -
قال الخبر: إن ثلاث نساء مسلّحات بمطارق، ومدرّعات بأزياء وخُوَذ ونظارات خاصة، وقايةً من شظايا الأجهزة والأواني الزجاجية، واقفات أمام باب عيادة "تمبر كلينيك" أو عيادة تنفيس الغضب وضبط الروح، مقابل كلفة أعلى بقليل من الكلفة العادية. تتيح العيادة للغاضبين تحطيم أجهزة أغلى في وسط جاكرتا. نادي تبريد الغضب بالمطارق، سبقت إليه عواصم أوروبية. النساء أرقُّ من الرجال، لكنهن أسرع غضباً، كما يقول خبر بنات طارق، اللاتي يضربن بالمطارق، قلب كل عاشق.
تقول شاخصة جذّابة معلقة في إحدى القاعات: إنّ كبت الغضب يعادل شرب السمِّ. وهذا يعني أن حكوماتنا العربية كانت تذيقنا السمَّ بالمغارف والمطارق، والذلّ بالقناطير المقنطرة كل يوم. كأن عملها رفع منسوب السمّ في دماء الشعب الذي يخرج في مظاهراتٍ ليفدي بها الرئيس، حتى لا يغضب. قالت إحدى الغاضبات الإندونيسيات إنها نفّست عن غضبها نصف ساعة بتسعة دولارات، وهذا مبلغٌ يعيش به الأوروبي يوماً، والهندي أسبوعاً، والسوري شهراً.
قبل شهور قليلة، أصبح لدى سكان القاهرة نادٍ لتفريغ طاقة الغضب المتراكمة من العيش في مدينةٍ ضخمةٍ شديدة الزحام، كما قال كاتب الخبر الشاطر. ليس الزحام ما يغضب المصري في القاهرة، بل القهر السياسي والسيسي، والجوع، والعطش، وصعوبة النطق. تقول الإحصاءات: إن الغضب المكتوم يتحوّل إلى يأس وانتحار وإلحاد.
الأمر مختلف في ألمانيا، فقد دُعي كاتب هذه السطور إلى عرسٍ ألماني، ووجد أنَّ أكثر المدعوين يُحضِرون معهم زكائب من الأواني الزجاجية الفاخرة، ويحطّمونها، ليس تنفيساً للغضب، ولا رفعاً للعتب، بل لجلب الحظِّ وتحصيل الطرب. وقد غضب كاتب السطور، وكاتم الغضب المقبور، غضباً شديداً، ليس لأنه لم يشاركهم حظهم، بل لأنه حزن على تلك الأواني الرائعة، المزيّنة والمذهبة التي لم يرَ مثلها في حياته، وارتفع منسوب السمّ في مرارته المترعة بسمٍّ قديم معتّق، فكادت روحُه أن تتلف، والأرض به تخسف. قال يحيى بن خالد: الحزن والغضب من جوهر واحد.
سأل سائلٌ بعذاب واقع: كيف تنفّسون عن الغضب والكمد والهم والغم في البلاد العربية؟ فأجاب كاتب السطور: الغضب مرذول، والحلم عند الغضب محمود، والغضب للحق مطلوب، وقد سكتت الشعوب طويلاً، حتى احتقن الدم في صدورها حقداً، وستورّث حقدها للأجيال القادمة. تعرف كيف يتكوّن المسكُ عند غزال المسك، والعنبر عند حوت العنبر، وكيف يتحوّل الكربون إلى ألماس، كذلك الغضب العربي الممنوع من الظهور، الذي تحوّل إلى بركانٍ قبل سبع سنوات. الغضب درجاتٌ وطبقات، فالحكومة غاضبة دوماً، تنفّس عن غضبها بإصدار القوانين العجيبة، مثل قوانين الطوارئ في الدول العربية، وتهم إضعاف الشعور القومي وتوهين روح الأمة في سورية، ونشر الأخبار الكاذبة في مصر. قبل سنوات، كنا ننفّس عن الغضب بتأليف الطرائف والنكات السياسية. المشكلة أنَّ الحكومات باتت تنافس الشعب في تأليف النكات، ونكات السلطة ترفع منسوب السمّ في بدن الشعب، لأن أهم مبادئ النكتة السياسية المنفّسة عن الغضب أن يتألم الخصم السياسي منها.
هناك كتبٌ بالعشرات، تبدأ عناوينها بكلمات مكافحة لليأس والحزن، مثل كشف الغمّة، وسلوة المحزون، وسلوة الكئيب، وأشهرها كتاب "تسلية أهل المصائب". تنصح الآثار الإسلامية فثأ الغضب بالوضوء، والجلوس، والآثار العربية بشرب الرثيئة (لبن ممزوج بالحليب)، ويفثأ المحدثون غضبهم بالتدخين، لكن الدستور ينتهك، والقوانين تدنّس، وحرمات البيوت تخرق. وأذكر أيضاً: انقطاع الماء، والخبز، وأرتال الطوابير التي تهدر الكرامة البشرية، وكل ذلك يثير الغضب، سوى ذلك الطوائف الحاكمة التي تسعد بإغضاب شعوبها، وتسكت عن العدو الذي يهينها، فترد عليه بتعذيب الأبرياء في السجون والمعتقلات. ينفّس العربي عن غضبه بضرب أطفاله، والزوج بتطليق زوجته وضربها، والعامل بسوء التصنيع.
سأل السائل بعذابٍ واقعٍ ليس له دافع: هل توجد كتبٌ عربيةٌ مترجمة، أستفيد منها في تحويل الغضب الذميم إلى غضبٍ حميد، فذكرت له كتاب "لا تحزن"، وهو أكثر الكتب مبيعاً، فبحث في "غوغل" فوجد أن مؤلفه هو عائض القرني، فاعتذر، لأن صاحبه يرفع منسوب الهمّ والغمّ والغضب لديه، بسبب عدم مطابقة حال المؤلف للأقوال.
وذكرت له أنّ ثوراتٍ قامت في خمس دول عربية، كان اسم الجمعة الأولى فيها "جمعة الغضب"، بعد نصف قرن من تأجيل الغضب، والحق أنني أخفيت أنّ الحاكم العربي ينفث عن غضبه بأسلوب جاكرتا نفسه، غير أن غرفته هي الوطن، ومطرقته هي القانون، وأوانيه وصحونه وفخاره هي الشعب.
683A43FF-D735-4EBA-B187-3AC9E42FAE32
أحمد عمر

كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."