حين يكافح النظام اللبناني الفساد

حين يكافح النظام اللبناني الفساد

28 فبراير 2019
+ الخط -
فجأة، أخذت حناجر أقطاب النظام اللبناني تصدح بنغمة مكافحة الفساد، وكأنهم ماردٌ خرج من قمقمه، وبدأ يبحث عن الشر ليحاربه ويُحِلّ الخير محله. ووسط دهشة المراقبين وأبناء الشعب اللبناني، توافق رموز الفرقاء اللبنانيين، من وزراء ونوّاب، على إطلاق البرامج والوعود بحربٍ على هذا المرض، وأخذوا يكشفون بعض مفاصله المستشرية في إدارات الدولة، حتى بدا الفساد كأنه وليد اللحظة. ومع أن هذا الطرح يثير الاستغراب، فإنه يثير التساؤل بشأن أغراضه، خصوصاً أن أقطاب النظام هم أنفسهم من كانوا في الحكومة والسلطة حين استشرى هذا الفساد وفتك بجسد الدولة.
ومن دعوات مكافحة الفساد ما خرج به رئيس الحكومة، سعد الحريري، بداية شهر فبراير/شباط الجاري، أن محاربة الفساد وتخفيض النفقات ستكون شغل حكومته الشاغل في المرحلة المقبلة، وتحدّث عن وجود إجماعٍ سياسيٍّ على محاربة الفساد، مع العلم أنه ألغى وزارة مكافحة الفساد. وصرَّح رئيس مجلس النّوّاب، نبيه بري، قبل أيام، بأن مكافحة الفساد تكون بتطبيق القوانين وتفعيل القائم منها، وأن المجلس، واعتباراً من اليوم، "لن يمنح غطاءً لأحد"، فهل كان يفعلها في ما مضى من سنوات؟ وأعلن قبله النائب حسن فضل الله، في أثناء جلسة مناقشة بيان الحكومة الوزاري: "قادمون على معركة صعبة" في ملف الفساد. وكان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قد كلَّف النائب فضل الله بمتابعة هذا الملف، وتزويده بمستجدّاته، وكان ذلك عشية الانتخابات النيابية، السنة الماضية. يومها وصف نصر الله محاربة الفساد بأنها محطةٌ ثالثة من محطات الحرب التي يخوضها حزبه، متحدِّثاً عن عدم القدرة على إدارة البلاد في ظل الثقل الذي يشكله عليها.
وتناغم التيار الوطني الحر الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية مع هذه الدعوات، حين أعلن 
رئيسُه، الوزير جبران باسيل، عن إطلاق حملة "التيار ضد الفساد"، بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي، معترفاً بأن "الفساد مغطَّى بحماية سياسية وفئوية". وارتفع هذا الخطاب في أثناء مناقشة مجلس النواب البيان الوزاري الذي أُقرَّ، ونالت الحكومة الثقة، مع ذلك، على إثره، في 15 فبراير/شباط الجاري. وكذلك دخل حزب القوات اللبنانية على الخط، حين تكلم النائب جورج عدوان عن ملفاتٍ تتعلق بالأمر ستذهب إلى القضاء، وسيحاسب المسؤولون الذين ارتكبوا انتهاكات. ولفت إلى الفساد في وزارة الاتصالات، حين تحدَّث عن استئجارها مبنى بـ 40 مليون دولار، في حين أن سعر المبنى يقدّر بأقل من قيمة استئجاره.
من المتعارف عليه أن ملف محاربة الفساد، في دول العالم الثالث، لا يُطرح سوى من أجل تحقيق أحد هدفين: تلميع صورة الحاكم الذي طال جلوسه على العرش وإظهاره بمظهر الإصلاحي، أو إعلاء شأن وليِّ عهدٍ شاب، أو مغتصبِ سلطةٍ، يجري الترويج لعصره على أنه عصر الإصلاحات. وضرب شخصٍ بعينه، يكون قد وصل إلى درجةٍ من القوة والنفوذ في الدولة، ما يجعل من المتعذّر على الحاكم، المرتاب، التخلص منه، فيفتح ملفات الفساد المتورّط بها، ويحيله إلى القانون الذي، وللمفارقة، يُطبَّق عليه من دون سواه من أبناء السلطة الفاسدين.
توضح الدلائل، في دول عربية كثيرة، أن محاربة الفساد من الأمور المتعذّرة، لأن الحكومات تساهلت مع انتشاره، أو تماهت معه، حتى بات مؤسساتٍ مستقلة، له قيَمُه التي تجذَّرت وتعمَّقت في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، علاوةً على شلِّه الحياة الإدارية لمؤسسات الدولة المبتلاة به. وفي لبنان، تعدُّ مسألة مكافحة الفساد من المستحيلات، لأن السلطة اللبنانية التي تكرّست بعد اتفاق الطائف، أي منذ ثلاثين سنة، ويحكم استمرارها التوازن الطائفي، هي المسؤولة عنه، فهي التي كانت تدير البلاد حين ضرب مؤسساتها، ولم تتخذ أي خطوةٍ لمحاربته. وإن تحميل مسؤوليات الفساد، إن جرى التحقيق بفضائحه بجديَّةٍ، سيستدعي مثول رموزها أمام القضاء، فهل تسير الحكومة في مشروعٍ يجرٍّمها، وربما يطيحها ونظامها؟ كما لا يمكن لهذه الحكومة الشروع بمحاربة الفساد والإصلاح في وقتٍ تفتقر البلاد فيه لقوانين محاسبة الرؤساء، أو قوانين الإثراء غير المشروع، علاوة على ضعف هيئاتها الرقابية، المناطة بها هذه المهمة.
من جهة أخرى، هل تُعدُّ الدعوة إلى مكافحة الفساد اعترافاً ضمنيّاً من النظام بفساده، كونه هو من كان حاكماً البلاد طوال الفترة التي حلّ فيها الفساد واستشرى؟ وكيف تصلح حكومة النظام خطأً ارتكبته، وأصبح ارتكابه أسلوب حكمٍ لتحاصص البلاد وتوزيع مؤسساتها بين زعماء 
الطوائف. ومن المعروف أن أطراف هذه الحكومة كانوا مستفيدين من استشرائه، من أجل إثرائهم الشخصي عبر العقود غير القانونية والصفقات المشبوهة، مع العلم أنه لم يُكشف بعد عن مصير القروض التي يرزح تحت ثقلها أبناء البلاد، حاضراً ومستقبلاً. وفي هذا الإطار، بيَّنت تحقيقاتٌ نشرتها مجلة أوبسرفاتور الفرنسية، نهاية السنة الماضية، أن معظم العاملين في الحقل السياسي، من أقطاب الحكومات أو النواب، حقّقوا ثرواتٍ تعادل مليار دولار لكل منهم. وهي ملياراتٌ تكدّست لديهم، في حين عجزت الحكومات عن سداد القروض، أو تحقيق تنميةٍ، أو تنفيذ مشروعاتٍ للكهرباء أو المياه أو الزراعة والصناعة، أو حتى نجاحٍ في موضوع جمع القمامة من شوارع عاصمة البلاد ومدنها الأخرى.
قد تكون الحكومة اللبنانية بحاجةٍ إلى مكافحة الفساد، أو الإيحاء بمكافحته، لأنه يعدُّ من شروط المقرضين لضمان استرداد قروضهم. ففي ظروف لبنان، تبقى مكافحة الفساد إحدى وسائل ضمان توفر السيولة للحكومة من أجل رد الدين. ومع ذلك، تعالج الحكومة الخطأ بالخطأ؛ إذ يرى رئيسُها في القروض التي تَوافَق أعضاء مؤتمر سيدر على منحها للبنان، في إبريل/ نيسان الماضي، والتي ستُصرف قريباً، السبيل الأنجع للقيام بالإصلاح ومعالجة الأزمات المعيشية. ولكنه ينسى تبعاتها فهي ستتراكم فوق التي سبقتها، وستتناهشها أطراف السلطة، فلا تعود بالنفع على المواطن، ولا تنقذ اقتصاد البلاد.
يجري الحديث عن الإصلاح من دون الكلام عن الخطأ المتوجب إصلاحه، ومن دون ذكر مسبّبي هذا الخطأ الذين يتحمَّلون مسؤولية حدوثه. والمؤكد أن هذا البند لن يُطرح للتداول، لأنه من غير المنطقي أن يحاسب الذين مهَّدوا الأرضية للفساد أنفسهم. من هنا، ستبقى عملية المكافحة قاصرة، وستبقى في التداول الإعلامي إلى فترةٍ لتعمل على تهدئة الغضب الذي يضجُّ به الشارع اللبناني، بعد أن وصلت الأوضاع المعيشية إلى حالٍ لم يعد المواطنون قادرين على تحمّلها، ويخرجون في المظاهرات احتجاجاً على أداء السلطة. ومرد غضب الشارع، أيضاً، إعادة الحكومة اللبنانية إنتاج نفسها، مع تغييرٍ في الوجوه التي تمثل زعماء الطوائف، وهو ما لا يتعدّى كونه حقنة تخدير، يُراد بها إيصال رسالة مفادها: صحيحٌ أن طبيعة النظام وطبيعة الحكومة التي تمثل هذا النظام لم تتغيَّرا، لكننا نأتي إليكم بدمٍ جديدٍ متحمِّس لمحاربة الفساد.
ليس لدى الحكومة اللبنانية الجديدة، كما كان الحال مع الحكومات السابقة، ما تقدّمه للشعب لكي تنال ثقته، حتى ولو نالت ثقة برلمانه. وهي تعرف أن الاقتراض ليس رافعاً للتنمية، فأموالُه سيذهب قسم كبير منها محاصصةً على الفرقاء وخدمةً للدَّيْن. لذلك ليس لدى الحكومة الجديدة سوى ادعاء مكافحة الفساد سبيلاً لقبول الشعب لها، ومنعاً لاحتمال خروجه عليها. لذلك، لن تكافح الحكومة الفساد الذي أوجدته، وستبقى الحال كما هي، مفتوحةً على احتمال الانفجار، إنْ لم يسبقه الإصلاح الحقيقي.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.