في تذكّر وحدة مصر وسورية

في تذكّر وحدة مصر وسورية

27 فبراير 2019
+ الخط -
بعد أكثر من ستة عقود على إعلان وحدة مصر وسورية، يصبح الحديث عنها ضربا من النوستالجيا الحالمة بزمان عبر، ولم يعمّر الحدث، بعظمته وعنفوانه، أكثر من ثلاث سنوات وسبعة أشهر، كانت حافلة بالآمال الكبار، وأيضا بالعواصف التي أخذت من عظمتها وعنفوانها، حتى أردتها قتيلةً ليس بأيدي خصومها الذين تنكّروا لها منذ إعلانها فحسب، وإنما أيضا بأيدي دعاتها وأصدقائها الذين ساهموا في ولادتها، وتحمّسوا لها ثم تنكّبوا الطريق، وتربّصوا فرص الإيقاع بها، مستغلين أخطاء رجالها، وبعض الأخطاء صارت خطايا. وجاء انقلاب الانفصال، ليثير الأسى في نفوس من رأى فيها تحقيقا لهدف كبير، ناضلت من أجله أجيال. بعد تلك العقود، انكشفت وقائع كثيرة ظلت غائبة عن العيون زمنا مديدا، ولبعضها ما يستدعي هذه الحاشية، للتأشير عليها، لعل الاعتبار بها يكون ممكنا. 
واحدة من تلك الوقائع المهمة أن الرئيس جمال عبدالناصر كان الوحيد من بين الذين تفاوضوا وتبادلوا وجهات النظر في ولادة الدولة الجديدة، ومن بينهم الضباط السوريون الكبار الأربعة عشر الذين جاءوا القاهرة، داعين إلى إقرار الوحدة "قبل أن تضيع سوريا"، الذي أدرك المسار مبكّرا، وتنبأ بحصيلة ما قد يحدُث، لكنه لم يشأ أن يسجل التاريخ عنه أنه رفض قيام الوحدة وأضاع سورية. وبحسب ما قالته ابنته هدى، إنه صارح الضباط الذين جاءوا من دون معرفة حكومتهم بالغاية من سفرهم بوجهة نظره، أن يتم طرح مطلب الوحدة عبر المؤسسات الدستورية، مقترحا البدء بوحدةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ على مدى خمس سنوات مرحلة انتقالية، قبل أن تتم الوحدة الدستورية الكاملة. ولو تم فعل ذلك، لربما نجت دولة الوحدة من الفخاخ التي نصبت أمامها، ولاستقر الشكل الدستوري على النحو الذي يضمن سلامة الدولة الجديدة وتقدمها.
اتسمت رؤية عبد الناصر تلك بالوضوح، فيما لم يكن في أذهان من تفاوض من السوريين، وبينهم قيادات بعثية وازنة، مشروعٌ مكتملٌ لدولة الوحدة، أو حتى رؤية واضحة في كيفية توزيع السلطات وإدارة الدولة، ربما لقصور تجربتهم العملية أو عجزهم عن قراءة ما يدور من
حولهم، أو ربما نتيجة ضغط المد الشعبي المطالب بالوحدة عليهم.
وهكذا وقعت سلطات الدولة الجديدة مبكّرا في أخطاء وخطايا جعلت السكاكين تتكاثر عليها، ولم تكن معالجتها بالسهولة التي نراها نحن، بعد تلك العقود المديدة، فقد أوجد عبدالحكيم عامر وعبد الحميد السراج في سورية "دولة عميقة" مطلقة الصلاحيات، ومنفصلة عن الناس، حولت البلد إلى سجن كبير، وأثارت السخط والنقمة. وحسب رواية هدى، فإن عبد الناصر عندما وصلت إليه أخبار هذه الممارسات لم يكن راضيا، وكان بصدد اتخاذ الإجراءات المناسبة، ولكن الأمور جرت بسرعة على نحوٍ آخر متجهة نحو "الانفصال".
يُشار في وثائق ونشريات رصدت الحالة السورية في تلك الفترة إلى عوامل أخرى ساهمت في تردّي الحال، مثل الأضرار التي أصابت الاقتصاد السوري جرّاء القرارات الاشتراكية التي لم تراع أوضاع سورية المحلية، وشعور البورجوازية الوطنية أنها ضربت في مقتل، وكذلك حل الأحزاب والتضييق على الحريات، وممارسة نوع من "الهيمنة" المصرية على كل ما يرتبط بسورية، من دون اعتبار لخصوصية وضعها ووضع أهلها.
وعلى هامش "وضع أهلها" هذا يتندّر من عاصروا التجربة، وعاشوها بروايةٍ، يُزعم أنها صحيحة، مفادها أن الرئيس السوري، شكري القوتلي، قال لعبد الناصر غداة إقرار ميثاق الوحدة: "لقد سلمتك ستة ملايين سوري (سكان سورية آنذاك)، ثلاثة ملايين يعتبرون أنفسهم أنبياء، وثلاثة ملايين مثلهم يعتبرون أنفسهم زعماء"، يضيف الراوي أن "الأنبياء" و"الزعماء" تضافروا معا لإجهاض الوحدة.
ثمّة عامل خارجي لعب دوره أيضا، تمثل في خشية قوى دولية وإقليمية، وعربية من أن تكون"الجمهورية العربية المتحدة" قادرةً على استقطاب أقطار عربية أخرى، بحيث تشكل قوة اقتصادية وسياسية، ذات تأثير وفاعلية في إقليم واعد وزاخر بالثروات، وهو ما دفع تلك القوى إلى التآمر المعلن عليها حينا، أو الكيد لها سرا مرات ومرات!
وعلى أية حال، وبعد أكثر من ستة عقود، يبقى من وحدة مصر وسورية ذلك الطعم الرومانسي الحالم الذي يذكّرنا بعروبتنا التي اهتزت على وقع تراجع الهوية القومية لبلداننا، وصعود الهويات الفرعية من طائفية وعرقية، وبفعل خطوات التطبيع والتصالح مع العدو، والسياسات الشريرة لبعض الأنظمة العربية التي فرّقت أبناء الأمة، وشرعنت الحروب بين بلدانها.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"