"كافئوا العمل وليس الثروة"

"كافئوا العمل وليس الثروة"

25 فبراير 2019

مشهد من مقر بورصة نيويورك (15/2/2019/فرانس برس)

+ الخط -
كم يبلغ إجمالي ثروات الثلاثة آلاف ضيف الذين شاركوا في ملتقى دافوس أخيرا؟ إنه يقدر بأرقام فلكية، إذ أن 26 مليارديرا فقط يملكون ثروة، أي مال وعقارات وشركات وأسهم وغيرها، تعادل ما يملكه 3.8 مليارات إنسان. وقد بيّنت منظمة أوكسفام (اتحاد الجمعيات الخيرية) البريطانية، في تقريرها عن عام 2018، أن ثروة هؤلاء الـ 26 زادت 900 مليار دولار عام 2018، أي 2.5 مليار دولار كل يوم. وسواء كانت هذه الأرقام دقيقة أم أقل، فهي تشير إلى تزايد فجوة الدخل والثروة داخل كل بلد بين الأغنياء وبين عموم الناس، أو فيما بين البلدان، والتي تتسع باستمرار، خصوصا منذ ثمانينيات القرن العشرين. ويكاد يكون نحو 90% من سكان العالم لا يملكون ثروة مادية تُذكر، مثل العقار والأسهم والأرصدة البنكية وغيرها. فإلى أين تسير البشرية؟ 
يشير هذا الواقع إلى خرافة اليد الخفية التي تنظم اقتصاد السوق، وتدعو إلى عدم التدخل فيه، على الرغم من أن صاحب هذه العبارة الشهيرة، آدم سميث، لم يَعدّ فجوة توزيع الثروة خللًا في عمل السوق، فانعدام العدالة لا يُدخله الليبراليون في حساباتهم، بل يعدّونه محفزًا للنشاط البشري ونمو الاقتصاد، على الرغم من أن ازدياد الفجوة ينعكس فقرًا على بقية فئات المجتمع. وهذا خلل كبير يخلق اضطراباتٍ اجتماعية. واحتجاجات أصحاب السترات الصفراء في 
باريس، والمستمرة منذ عدة أسابيع، هي أحد تجليات هذا الخلل. وبالتأكيد ثمّة رغبة قوية في الاحتجاج في بلدانٍ أخرى، ولكنها تبقى مقموعة إلى حين، إما بنظام سياسي شمولي، مثل الصين، أو أن آلة الضبط الاجتماعي الرأسمالية تنجح، حتى الآن، في تشتيت جهود الاحتجاج، أو تحويله إلى مطالب صغيرة على مستوى مكان العمل، فلا تتحوّل إلى احتجاج جماعي في الشارع.
تقاس فروق توزيع الدخل بأشكال مختلفة، وأشهرها معامل جيني، ويتدرّج من صفر إلى واحد، وتقاس أيضًا بحصة العمل، أي نسبة الأجور من إجمالي الدخل الوطني مقابل حصة رأس المال، أي الأرباح. فكلما ارتفعت حصة الأرباح، كان توزيع الدخل أقل عدالةً، والعكس صحيح. كما يقاس توزيع الدخل والثروة بتقسيم المجتمع إلى خمس أو عشر فئات، بحسب درجات الغنى، ثم تقاس حصة كل فئةٍ من الدخل أو من الثروة، وغيرها من طرق، كما تبرز المظاهر الأكثر شذوذًا عند مقارنة ثروة عددٍ صغيرٍ من أثرياء العالم بثروة عدد هائل من فقرائه، كما ذُكر أعلاه.
تبعث هذه الفروق الفلكية، أو حتى الفروق التي تقل عنها بكثير على السؤال: ماذا أنتج الملياردير الذي يمتلك المليارات أو مئات الملايين من الدولارات؟ وما هي القيم المضافة، وما هي السلع والخدمات، وما هي المنتجات الاستثنائية التي أنتجها هؤلاء الأثرياء؟ وماذا قدّموا للبشرية من فوائد كي يملكوا كل هذه الثروات الاستثنائية الطائلة؟ بالتأكيد هم ملكوها عبر نظام اقتصاد السوق، وهي ملكيةٌ مشروعةٌ، وفق القوانين والأنظمة والأعراف السائدة، ولكن هذا لا يعني أن كل ما هو سائد صحيح، فالقوانين والأنظمة والأعراف والقيم يفرضها الأغنياء بوسائل تأثيرهم العديدة.
الدفاع المألوف عن تجميع الثروات، مهما عَظُمتْ، و"أنها مكافأة المخاطرة ومكافأة المبادرة". ولكن، هل يمكن أن تبلغ المكافأة هذا القدر الهائل؟ وحتى لو تولّى المالك إدارة منشآته بنفسه، فلن تبلغ تعويضات الإدارة، عشرات ومئات ملايين الدولارات سنويًا، والثروات الطائلة تتكون من أرباح رأس المال، فهنا "المال هنا المال" وليس عمل المالك ولا مساهمته من ينتج المال والثروة.
المديرون العامون والتنفيذيون للشركات الحكومية أو المساهمة الذين يديرون الشركات الكبرى، من دون أن يكونوا مالكيها، يقومون بدور أهم وأكبر من المالك بكثير، بل إن أي مخترع ومكتشف يقدم حلولًا لمسائل تواجه البشر، تقدّم منافع تعم على مئات آلاف وملايين الناس، وأي مهندس مبدع يصمم ويبني الجسور العملاقة، أو طبيب ماهر ينقذ حياة الناس، يقدّمون منافع لمجتمعهم وللبشرية أكبر من أي مالك، ولكن لا يجني أفراد هذه الفئة، حتى في الدول الغنية، سوى بضع عشرات أو مئات آلاف الدولارات في العام، فأصحاب الأجور والرواتب لا يمكنهم تكوين ثروات طائلة تبلغ عشرات الملايين من الدولارات، فكيف بالمئات والمليارات منها.
في الواقع، المال كنقد بحد ذاته غير منتج، فهو تعبيرٌ عن قيم سلع وخدماتٍ ينتجها العمل 
البشري الحي مع العمل المتراكم (السابق) المتجسّد في الأبنية والآلات والأدوات وغيرها، هو من يخلق القيم، وينتج الدخل والثروات، والمال كنقد وسيلة قياس، ولا قيمة له بحد ذاته، وتتحدّد قيمته بقدر ما يمثله من سلع وخدمات في السوق "قدرته الشرائية".
لا تقتصر تشوهات السوق، وتفاوت الدخل والثروة على داخل البلدان، بل أصبحت اليوم تشمل العالم أكثر، من أي وقت مضى، فقبل الثورة الصناعية كان وسطا دخل الفرد وثروته في أغنى بلدان العالم (هولندا وإنكلترا آنذاك) يزيدان بمعدل ثلاث مرات عن وسطي دخل وثروة الفرد في أفقر البلدان، مثل الهند والصين آنذاك. أما بعد الثورة الصناعية، فأخذ البون يتسع إلى أن أصبح في ستينيات القرن العشرين نحو 35 مرة، وفي عام 2010 نحو 80 مرة، أما اليوم فهو أكبر من ذلك.
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت الاستثمارات تذهب من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة، لإقامة بنية تحتية وإقامة حد أدنى من البنية الإدارية، بما يمكّن الدول المستعمِرَة من استغلال ثروات البلدان التي تستعمرها. أما بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، فقد بدأت الأموال تسير في اتجاه معاكس، من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، لأسبابٍ كثيرة، رتبتها حكومات الدول الغنية وأغنياء الدول الفقيرة. ويضاف لها ما تجنيه البلدان الغنية من أرباح شركاتها الكبرى من نشاطاتها في البلدان النامية، وأرباح صادراتها من منتجات تقنية عالية، وخدمات تصدّر لهذه البلدان. وتقدر أرباح البلدان الغنية ومنافعها التي تجنيها من البلدان النامية بنحو ألفي مليار دولار سنويًا. بينما يبلغ إجمالي ما تدفعه البلدان الغنية، على هيئة مساعدات سنوية، للبلدان الفقيرة نحو 130 مليار دولار، ثم تملأ الإعلام ضجيجًا عن مساعداتها للبلدان الفقيرة، والسؤال بالتالي: من يساعد من؟
كل هذا وأكثر من تشوهات السوق، وتشوهات نظام الملكية، وتوزيع الدخل في اقتصاد السوق، إنما تحتاج إلى تقويم اعوجاجها لإيجاد مجتمع أكثر عدالة، وأقل تفاوتًا، وأكثر استقرارًا، ولكن ليس طريق التأميم وسيطرة الدولة هو الطريق الأمثل، فقد جرّبته شعوب كثيرة وثبت فشله. وتبقى المهمة الكبيرة أمام البشرية هي تطوير أشكال ومناهج وسياسات ضمن اقتصاد السوق وقواعده الأساسية المتعارف عليها في حرية التملك والاستثمار وتشكّل الأسعار، بما يؤدّي إلى توزيعٍ أكثر عدلًا للدخل والثروة، وتقلّص الفجوة في توزيعها. ولا يتم ذلك بدون التدخل لتوجيه عمل السوق، ووضع تشريعات وسياسات تخدم هذه الغاية، ولا يتحقق هذا بدون ارتفاع وعي عموم الناس بحقوقهم، واتحادهم للضغط والاحتجاج الجماعي المنظم. ومفتاح هذه السياسة الجديدة هو شعار "أوكسفام": كافئوا العمل وليس الثروة.