عن جدوى الندم

عن جدوى الندم

25 فبراير 2019

(أسامة دياب)

+ الخط -
تشكو سيدة الشرق، في رائعتها "فات الميعاد" (ألحان بليغ حمدي وكلمات مرسي جميل عزيز) من وجع الندم، وتثير سؤالا مشروعا عن جدواه، حين تقول باستسلام مرير "تفيد بإيه يا ندم وتعمل ايه يا عتاب..". ومن باب المكابرة والعناد، وإمعانا في ادّعاء صفات الكمال والمثالية، وتأكيدا لنرجسيةٍ مرضيةٍ متأصلةٍ في نفوسهم، كثيرا ما نستمع إلى نجوم ومشاهير، في حواراتٍ صحافيةٍ، يؤكّدون، بلا أدنى تردّد، أنهم لا يندمون على شيء فعلوه في السابق، وأنهم لن يغيروا أي تفصيل في ماضيهم، فيما لو عادت الأيام بهم. والواقع أن إجابات يقينية جازمة على هذا النحو تفضح حالةً من عدم النضج الذهني والنفسي تدفع بهم إلى تبرير أي سقطةٍ أخلاقية أو هفوة مسلكية متعلقة بهم. وبحسب علم النفس، الأطفال دون سواهم هم من لا يعانون من مشاعر الندم، مهما ارتكبوا من أخطاء ذلك أن الإحساس بالندم مرتبطٌ بدرجة كبيرة بمستوى الإدراك والوعي والقدرة على التمييز والربط بين الأفعال وعواقبها، وتحمل المسؤولية الأخلاقية المترتبة عليها.
من هنا، علينا التسليم بصفة النقصان في طبيعة البشر. من حيث المبدأ، نقطة انطلاق ضرورية لفهم حالة الندم، باعتبارها لحظة مواجهةٍ مع الذات، لا تخلو من شجاعة ووضوح وصدق وشفافية، لا ينبغي، بأي حال، التنصل منها، ذلك أن الندم هو السبيل الأمثل أمامنا لغسل الروح وتنقيتها من الشوائب التي تعكّر صفو اللحظة، لا سيما إذا نجم عنها إقرار بالخطأ ومحاسبة عسيرة للذات، واعتذار لآخرين، ربما تضرّروا من أفعالنا، ما يسهم في إنعاش الضمير، للحيلولة دون ذهابه في غيبوبةٍ عميقة. سعيا إلى تقبل وغفران يهدئ النفس اللوامة، ويواسيها. الندم، كما يعرّفه خبراء نفسيون، هو الشعور بالمرارة الذي ينتابنا، حين ندرك أن لحظتنا الراهنة كانت ستكون أفضل، لو أننا قرّرنا التصرف بشكل مختلف في الماضي. فعلا هو شعور باهظٌ وثقيلٌ، حين نحسّ بعدم الرضا، إثر نظرةٍ متعمقةٍ إلى الوراء، متأملين فيها ما جرى فيها من أحداث، وما ارتكبنا فيها من حماقاتٍ بحق أنفسنا في الدرجة الأولى.
قالت امرأةٌ، في نهاية الأربعينيات، إنها الآن فقط أدركت المعنى الحقيقي لكلمة الحرية، بعد أن تمكّنت من التخلص من علاقة طويلة وغير مجدية مع رجلٍ متزوج، سمح لنفسه أن يبقيها بذريعة الحب الكبير، متواطئةً ضد نفسها في الظل، محرومة من الأمان والوضوح واحترام الذات، حرصا على حماية حياته الأسرية، مغذّيا تلك السنين العجاف بالأوهام والأحلام والوعود الكاذبة والتسويف، حتى تنبّهت، في لحظة انكسار ساطعة، إلى أن شبابها الذي توهمته دائما بفعل سحر الحب قد شرع في الذبول، من دون أن تتسنى لها مزاولة حياة طبيعية، تاقت لها زوجةً وأما وصاحبة بيت. تخففت السيدة من مشاعر الغضب والإحباط والغيرة والشك التي لازمت قصتها الشوهاء العرجاء، كما تصفها، غير أن الإحساس بالندم ظل حملا ثقيلا، ما زال يوجعها، ويجعلها عاجزةً عن مزاولة حياتها بشكل طبيعي.
وأكدت امرأة خمسينية نالت حريتها، بعد عمرٍ من القهر أمضته صاغرةً في بيت زوجٍ متخلف متسلط، لم يتوان عن إذاقتها مرّ العيش، وقد أكّدت السيدة على إحساسها الشديد بالندم، لأنها لم تُقدم على خطوة الطلاق في وقت مبكر، حرصا على أولادها الذين لم تشأ أن تعرّضهم صغارا لتبعات الطلاق المريرة، غير أنهم ابتعدوا، في نهاية الأمر، مسافرين في أصقاع الدنيا، شاقين دروبهم في الحياة في معزلٍ عنها، ما جعلها تشعر بعبثية ولا جدوى تضحيتها، وفوات أوان لملمة ما تبقى من حياةٍ آيلةٍ إلى زوال، على الرغم من عمق مأساة أولئك السيدات ومثيلاتهن، غير أن شجاعتهن، وقدرتهن على مواجهة الذات بدون مواربة، مسألة تستحق الإعجاب والإشادة بتلك الأرواح الرافضة الواعية، وهي تعبر مرحلة الندم تطهرا وخلاصا واستدراكا لا بد منه، من دون التأثر بطروحات الست عن الميعاد الذي فات.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.