مصر وكل هذه الإعدامات

مصر وكل هذه الإعدامات

22 فبراير 2019
+ الخط -
حالة من التخبّط الشديد الناتج من الألم أصابت ملايين المعارضين المصريين المُخلصين مساء الثلاثاء الماضي، عقب إعلان منظمة العفو الدولية (أمنستي) علمها بتوقع تنفيذ حكم الإعدام في تسعة شباب مصريين جدد صباح اليوم التالي (الأربعاء)، في قضية اغتيال النائب العام الراحل، هشام بركات. وسارع معارضون كثيرون في الداخل والخارج إلى كتابة تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي؛ مُندّدين ومُتأسفين ومُطالبين بتحرّكٍ ينقذ هذه الأرواح.
تدخل الحالة المصرية الراهنة منعطفًا بالغ المرارة من التأزم بهذه الإعدامات ذات الصبغة القضائية المهترئة، أو بالتصفيات الجسدية المتكررة. وأسوأ ما في الأمر تكرار إزهاق أرواح شبابٍ غض أخضر، عقب اتهاماتٍ جزافيةٍ، أو محاكماتٍ مشكوكٍ في نزاهتها على الأقل؛ إن لم تفتقد أبسط مقومات العدالة، بحسب بيان "أمنستي" أخيرا.
تم في شهر فبراير/ شباط الجاري وحده إعدام ستة شباب معارضين آخرين، دانهم النظام الانقلابي بقتل نجل قاضٍ في شمال مصر. أما الشباب التسعة المُعدمون بالفعل صباح الأربعاء فاتهمهم النظام بقتل المستشار هشام بركات" في 29 يونيو/ حزيران 2015؛ وأيدت الحكم محكمة النقض في 25 من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي؛ وبذلك تكون درجات التقاضي انتهت، وفق تعديل قانوني أخير، وصار الحكم باتًا بعد رفض الطعون عليه.
مثل إعدام الشباب، أحمد طه، أبو القاسم أحمد، أحمد جمال حجازي، محمود الأحمدي، أبو بكر السيد، عبد الرحمن سليمان، أحمد محمد، أحمد محروس سيد، وإسلام محمد، داخل سجن 
استئناف القاهرة خطوةً جديدةً ذات دلالة على استفحال النظام الانقلابي المصري، وظنه أنه صار يحكم بلا منازع، وفي المقابل، عجز المعارضة على الصعيدين، الداخلي والخارجي، وخصوصا الخارجي الذي كان يُنتظرُ منه الكثير. وقد مثّل حكم الإعدام محاولة متجدّدة من نظام رئيس الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، بإقناع جميع المصريين أولًا بأنه صار يقبض على مقاليد حكمها بيد من حديد، وأنه لا فائدة تُنتظر من مجرد الحلم بتجدّد ثورة 25 يناير، فمن ناحية أولى، قطع بيان منظمة العفو الدولية، قبل الإعدامات بساعات، الطريق على الذين كانوا يُعلنون أنهم فوجئوا بنتفيذ الأحكام في الصباح الباكر، ولا يملكون إلا الترحم على "الشهداء". وفي ظل حرب نفسيةٍ عنيفة، نحسب أن النظام بادر بتسريب خبر الإعدامات الأخيرة، ليكسب، بحسب ظنه، خطوة جديدة في تثبيط الهمم. وعلى أرض الواقع، سبّب البيان بالفعل آلامًا لمعارضي الخارج بشكل خاص؛ فهم المنوط بهم الأخذ بيد الداخل المقاوم الذي يعاني إلى حل.
عادةً ما تُحسب المعارضة على النظام الذي تعارضه على أنها جزءٌ من "فسيفسائه السياسي"، أو تُعارضه محاولةً أن تحل محله؛ أما الحال في مصر فإنه كان من المفترض أن تكون هناك "مناوأة سياسية" للنظام، تعلن هدمه من دون أدنى تبعيةٍ سياسية له؛ أما ما حدث منذ 3 يوليو/ تموز 2013 فمناقضٌ للآمال الكبرى التي عُلقتْ على قيادات فرّت إلى الخارج، خصوصا تركيا. وبداية من عدم الانتباه إلى اختيار اللفظ المناسب للإطلاق عليها، مرورًا بتفويت عشرات الفرص في فضح النظام المصري لدى الشعوب الغربية على الأقل؛ سيما مع التسليم بافتراض أن المجتمع الدولي متواطئ مع عبد الفتاح السيسي، وهو الافتراض محل النظر في مدى الضغوط، ولو المعنوية، التي مارستها عالميًا قيادات ثورية مصرية مفترضة، خصوصا أن النظم السياسية متباينة، كان من المفترض كسب عدد منها إلى جوار مناوئي الانقلاب على الأقل.
ومع ازدياد تخبّط المعارضة المصرية، وفي مقدمها قيادات جماعة الإخوان المسلمين في الخارج، بدأت الانشقاقات تعمل عملها لتقدّم للسيسي أفضل هديةٍ يمكن لمحاولي هدم نظام تقديمها له؛ إذ لم تعد أزمة الانشقاقات بعد حين مجرّد بعثرة القوى والفكر، فيما لا جدوى ولا طائل من ورائه، بل صارت الأزمة الأوضح أن بعضهم على الأقل شعر بأن "المركب يغرق"، وأن عليه أن يبحث لنفسه عن لوحٍ خشبيٍّ يُنجيه من الطوفان الذي يراه وشيكًا، ومن هنا سعى بعضهم إلى نيل الجنسية التركية مبكرًا باسم السياسة الثورية، من دون تأكد من أن آلاف الشباب المطارد صار في مأمن، خصوصا ممن حصلوا على أحكام إعدام.
ومع تقدّم الأيام ومرور الشهور، بات الاستقرار في الخارج هو ما يشغل كثيرين ممن كان من 
المفترض أن يقودوا الركب في مصر؛ بل صار التسليم بالأمر الواقع من أولويات بعضهم في الجماعة، وأهدافهم، ومن أجلها يُضادون ويُقصون كل صاحب رأي مخالف، أو حتى منادٍ بإعمال العقل. وفي ظل هذا التخبط الشديد صار تجمهر الجماعة الاعتراضي أمام القنصلية المصرية في إسطنبول يحتاج لمبادرة شبابية في ساعات مبكّرة من فجر الثلاثاء لتتبعه الجماعة عصر الأربعاء الماضي؛ وهو الاعتصام الذي لا يُناسب بأي حال التداعيات المريرة للموقف المصري الحالي.
قبيل تنفيذ حكم الإعدام الجديد، كتب ناشط حقوقي بارز على صفحته في موقع للتواصل الاجتماعي، متسائلًا عن الشخص الذي يمكنه وقف الإعدامات بمكالمة مع السيسي. وبعد التنفيذ بساعات قليلة، كتب قيادي معارض لتوجهات جماعة الإخوان المسلمين مقالًا ضخه فورًا على صفحات التواصل، بعنوان "قتلناهم" متهمًا فيه قيادات للجماعة والعمل الثوري بالتسبب في تقاعسهم في قتل الشباب التسعة، وسابقيهم، بل وآخرين ينتظرون تنفيذ أحكام إعدام مقبلة (نرجو ألا تنفذ).
على أرض الواقع، يستمد النظام المصري شرعيته من ادعاء وجود مخطط فوضى وإسالة للدماء في طول البلاد وعرضها "هو" يمنعه؛ وفي الوقت نفسه، يُزكّي النظام نفسه بقدر معينٍ إسالة الدماء هنا وهناك، مع إدخال روح اليأس بخطةٍ محكمةٍ على رافضيه، أو المفترض أنهم مناوئوه. وفي ظل واقع مظلم، قادتنا إليه خطى النظام الانقلابي الدموية، وإطاحته بالديمقراطية والقانون، لم يعد أمر الإعدامات الآن يخصّ تمرير التعديلات الدستورية؛ وإن كان هدفًا قويًا لها، بل صار الأمر تعبيرًا عن محاولته الاستحواذ الكامل على كل ما يخص مصر إلى الأبد. وفي المستقبل قد يقر النظام التوريث لتصير مصر جمهوريةً على نسق النظام السوري. والقائل إن أحدًا له أن يأمر السيسي فينصاع ويُوقف الإعدامات، ومع تقدير طيب نياته، تخالف كلماته الواقع. والقائل إن فشل المناوئين قتل وحده، أو اشترك مع السيسي، يخالف المنظور والمأمول في غد على الأقل، إذ إنه بمنتهى العاطفية أقرّ باليأس الذي يريده السيسي ونظامه.
لا ينبع حل المأساة المصرية من فكر أو ذهن أو مسار بعينه، إلا أن الواقع يُحتم أن تجلس الأطياف الرافضة للانقلاب من المخلصين معًا بعيدًا عن كل الأطر والتحزّبات والأسماء. على الجميع أن يحدد موقعه وموقفه من استمرار الثورة المصرية، وإنهاء نظام السيسي بداية من مسماهم المُناوئ، لا المعارض الذي يصوغهم معًا نهاية بخطواتٍ تصاعدية؛ لا تخبو مع الزمان ولا تهدأ، فلا تثور في مناسبةٍ وتخبو أو تنطفئ في أخرى، ذلك الجهد المُضني والعصف الفكري الدائم المستمر هو السبيل لكي لا تكون الحالة المصرية "محلّك سر"، أو في محلها تتابع فشلًا بعد آخر.