ليس بالعقل وحده يحيا الإنسان

ليس بالعقل وحده يحيا الإنسان

22 فبراير 2019
+ الخط -
لو كان بالعقل وحده يحيا الإنسان لما وجِدَت فضائل، ولو كان مجنون ليلى عاقلاً ما أحببناه، ولا خَلَّدت قصته الأجيال، بل إن سر خلوده أنه أحب بجنون.
لو لم يمت عروة بن حزام في حب عفراء لما صار أشهر عشاق قبيلة عُذْرَة، ولا عرفنا شيئاً نبيلاً اسمه "الحب العُذْري".
لولا هذا النبل الفريد واوفاء الكبير الذي تحلت به "إيزيس" لحبيبها "أوزوريس"، وجمع أشلائه التي فرقها الحقد والكره، لما صارت أسطورة في الحب والوفاء.
روميو وجوليت.. بروميثيوس.. فينوس.. كيوبيد.. قصص بين الحقيقة والخيال، بين الأسطورة والواقع، تناقلتها الشعوب عبر الأزمان لتمجيد الفضائل الإنسانية ومُثلها العليا.
أبطال معظم الأساطير والقصص الخالدة ليسوا من أصحاب العقول والذكاء والدهاء، بل من أصحاب العواطف المشبوبة التي اختارت المبادئ والمثل، وانتصرت لها على حساب أدلة العقل.
جان فالجان، بطل رواية البؤساء لڤيكتور هوجو، في ميزان العقل، هو إنسان أَبْلَه، فبعد أن تحول من سارق هارب من العدالة إلى شخصية مرموقة محبوبة تقدم خدمات جليلة لمجتمعها، ضحى بكل هذا وقدم نفسه للعدالة لإنقاذ رجل بريء.
ولولا هذا التصرف الذي أعلى من قيمة المبدأ على حساب الأدلة العقلية التي ساقها المؤلف، لَمَا أحبه القراء وتعلّقوا به، وكتموا أنفاسهم انتظارًا لقراره الظافر بالانتصار للمثل والقيم والمبادئ.
التضحية في حد ذاتها عمل غير عقلاني؛ بل والحب والبذل والتسامح.. كلها ضد العقل المجرد لأنها تتعارض مع حسابات المصلحة الشخصية.
ومن عجيب أمر الإنسان أنه يحب هؤلاء الأبطال فقط في القصص والأساطير. إنه يحبهم على خشبة مسرح التمثيل، ويكرههم ويسخر منهم ويتهمهم بالسفه والجنون والبلاهة على خشبة مسرح الحياة.
إنه يحبهم بشرط ابتعادهم عنه زمانًا ومكانًا؛ ربما لأن ذلك يعفيه من المقارنة بينه وبينهم، ويعطيه حجة مريحة ألا يكون مثلهم، إنه ينشد الأشعار تمجيداً لـ "مانديلا" جنوب أفريقيا، ويتجاهل ألف "مانديلا" في بلاده! بل؛ قد يصفهم بالحمقى والمجانين .
هؤلاء المجانين الحمقى حولنا وتحت أنظارنا ممن غلبت عواطفهم عقولهم ومبادئهم مصالحهم، هؤلاء العشاق المحبون العُذريون، هؤلاء الطيبون المتهمون بالسذاجة، هؤلاء الأسخياء الأتقياء الأنقياء المضحون بغير حساب، هؤلاء المعطاؤون بغير حساب ولا انتظار شكر أو جزاء، ما أجملهم، إن الحياة لا تحلو بدونهم، إنهم غذاء فضائل الإنسانية، إنهم قمح الوجود، يَنْبتون ويُحصَدون ويُطحَنون ويُعجَنون ويُخبَزون ليكونوا غذاءً لفضائلنا، وطاقة لأرواحنا، ودليلًا على أن في كوكبنا إنسانًا يحيا.
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
محمود صقر
كاتب مصري.
محمود صقر