"غرب المتوسط".. أيضا

"غرب المتوسط".. أيضا

22 فبراير 2019
+ الخط -
قبل أربعةٍ وأربعين عاما، جدّ حدثٌ كثير الأهمية في الأدب العربي، إصدار عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط"، الرواية التي ستبقى محتفظةً بمكانتها الإبداعية الرفيعة، بناءً وحكيا وسردا، ولغةً عالية الشحنات النفسية. ولمّا كانت عن الاستبداد، وعن السجون في بلادنا الزاهرة، والتعذيب فيها، وعن الإنسان العربي، المثقف خصوصا، واهتزازِه أمام جبروت السلطة، فقد عُدّت الأولى (ولعلّه صحيح) في المتْن الروائي العربي التي تذهب إلى هذه المَواطِن، سيما بتقنيّتها البديعة، وبعدم تأشيرها إلى أي بلدٍ عربي. ... 
وليس اكتمال خمسة عشر عاما، قبل أيام، على رحيل منيف، مناسبةُ إتْيان هذه المقالة على تلك الرواية التي يستدعي الحديثُ عنها مقدارا من الحنين إلى شبابِنا الأول، نحن طلاب الجامعات في مطالع الثمانينيات، لمّا انجذبنا إليها، وإنما هو ما يتداعى إلى البال في شأنها، بعد غضبة الكاتب والمترجم المغربي الأربعيني، عبد العزيز جدير، من مواطِنِه مبارك ربيع (79 عاما)، لأنه سمّى روايته الجديدة "غرب المتوسط" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2018)، وهو الاسم نفسُه لرواية جدير التي صدرت في 2008 (دار أبي رقراق للطبع والنشر، الرباط)، وهي غضبةٌ لا ضرورة لها، طالما أن لا صلةَ بين العمليْن، مضمونا ومبنىً ومحتوى، كما أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى التّجرؤ على مبارك ربيع، لقولِه إنه لم يكن يعلم عن الرواية السابقة. ولكن، لجدير حقُّه المؤكّد في سخريته من صحيفةٍ عربيةٍ (لندنية) نشرت مقالةً عن روايته نَسخَها كاتُبها (سارقُها) عن مقالةٍ للكاتب المغربي، عبد الواحد كفيح، فيما السارقُ يتحدّث عن رواية ربيع (!!). ولا أعرف إن كان جدير يعلم أن ثمّة روايةً أخرى بالاسم نفسه، للتونسي عبد الواحد اليحياوي، صدرت عن منشورات كارم الشريف في تونس، في 2014.
لم تتيسّر بين يدي صاحب هذه الكلمات رواية عبد العزيز جدير ليقرَأَها، فيكون له رأيٌ بصدِدها، وتسنّت له مطالعة الأُخريين. والبادي، من مقالة كفيح، أن ثمّة شيئا من الصلة لها مع "شرق المتوسط"، فبطلُها مدرسٌ مغربي يجري حبسُه لتدريسِه كتاب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد" لتلاميذه في المدرسة الثانوية، وتذهب إلى تفاصيل عن المغرب وحال المغاربة، في أجواء وسنواتٍ حرجة، وتأتي على وقائع تعذيبٍ قاسٍ يتعرّض له السجين في الزنزانة التي تمثّل فضاء مركزيا في النص. ومبعث التأشير إلى الصلة المفترضة بين ما صنعاه، منيف وجدير، في روايتيْهما، أن ثيمة السجن مركزيةٌ فيهما، وأن صوت البطل، وهو الراوي، حاضرٌ في كليهما، وهذا غائبٌ في رواية مبارك ربيع، المُهداة إلى روح عبد الرحمن منيف. ولمّا كان عنوانها سيُشير (أو يُحيل)، حتما، إلى الرواية الشهيرة، فقد قال ربيع إن هذه الإشارة متعمّدة، ولكن من باب الإهداء إلى منيف، فيما الرواية "لا تمتّ بأي صلةٍ إلى رواية منيف، لا شكلا ولا مضمونا ولا فنيا". وهذا ما يقع عليه قارئ العمل بيُسر، وإذا كان قارئا ذواقةً، فإنه سيقع على اتّساع المسافة الفنية بين العملين، إذ عانت رواية صاحب "خيط الروح" من ثرثرةٍ فائضة، وضعفٍ في انتقالات السرد من فضاء إلى آخر، وغابت عنها الحذاقة اللافتة التي يتوفر عليها الروائي الخبير بصنعته، عندما يقدر على إحداث جاذبيةٍ شفيفةٍ بين ما يسرد وبين القارئ، وهي الحذاقة التي توفّر قسطٌ منها في أعمالٍ سابقةٍ للمخضرم مبارك ربيع.
إنْ يجوز القول إن مبارك ربيع لم يكن مقنعا بالقدر الكافي في الإحالة التي أرادها، عندما كتب روايتَه عن إفريقيٍّ من غانا يعمل حارسا في حي شعبي في الرباط، ويتوسّل الهجرة عبر طنجة إلى أوروبا بالبحر، فإنه يجوز القول إن التونسي عبد الواحد اليحياوي (49 عاما) كان مقنعا ربما في اختياره "غرب المتوسط" عنوانا لروايته (أهداها إلى منيف أيضا)، لكنه لم يكن موفّقا أبدا، لمّا ظنّ أن كلاما مسترسلا عن الماركسية وأحلام التغيير والقومية والوطن والقمع يصنع روايةً جيّدة. ولعل سمت الكاتب، ناشطا وسجينا سياسيا سابقا، جعله يظنّ أن الرواية يكفيها طرح أفكارٍ كيفما اتفق على ألسنة عاطلين ومثقفين وحالمين وطلابٍ ذوي أهواء فكرية متباينة. لقد تمكّن من لفت قرّاءٍ إلى روايته لمّا اختار لها عنوانَها الذي يُحيل إلى رائعة عبد الرحمن منيف، ولكنه لم يقدّم لهم وجبةً إبداعيةً قد تُحيل إلى النجوى الآسرة، والخالدة، كما بثّها رجب، السجين المعذّب، والمثقف المهتز، لمّا رماه منيف في ذاكرة الرواية العربية.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.