في جديد أخبار المسألة اللبنانية

في جديد أخبار المسألة اللبنانية

03 فبراير 2019
+ الخط -
مع تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، قبل أيام، لم يعد يكفي تكرار القول إن السلطة اللبنانية تعيد إنتاج نفسها، أو إنها تعيد إنتاج النظام الطائفي، أو إن الآلية التي تنتهجها السلطة، وأثمرت هذه الحكومة، ليست سوى آليةٍ لإعادة إنتاج الفشل. بل يجب الخروج من النظرة الضيقة التي ترى أن إنجاز السلطة، أو فشل تحقيقها الإنجاز، ينحصر بتأليف حكومةٍ، أو عجزها عن تأليفها؛ إذ تدلّ المشكلات التي يعانيها لبنان من عقود، وتعجز حكوماته المتعاقبة عن حلّها، أنه بات هنالك راهنٌ ضاغطٌ على البلاد ومحيطها، تجلّى في عاملٍ تسبَّب في ما يمكن أن يطلق عليها تسمية "المسألة اللبنانية". مسألةٌ تتعلق بمرضٍ لا تشفى منها البلاد، ويُمنع على سلطتها الموت، حين يتقاسم زعماء طوائفها كعكتها حِصَصاً، يؤلم انتزاعها أبناء البلاد.
حين ظهرت الحكومة الجديدة، والتي كلَّف رئيس الجمهورية، ميشيل عون، سعد الحريري بتشكيلها، قبل عشرة شهور، سَعِدَ فرقاء السلطة بهذا الإنجاز، وابتهج محازبوهم بإطلاق الألعاب النارية تعبيراً عن هذا الابتهاج. واعتبر كلُّ طرفٍ من الفرقاء أنه نجح بما تحقّق، وربما تمنّوا أن يُهدوا نجاحهم بتأليف الحكومة إلى كل اللبنانيين. وليس بعيداً عن هذا المزاج، غرَّد الحريري بحماسةٍ قائلاً: "إلى العمل!"، وكأن الحكومات السابقة، والتي ترأَّس عدداً منها هو بنفسه أو أحد أعضاء تياره، عَمِلت بما يخدم مصلحة أبناء البلاد، حتى تعمل هذه الوزارة، فقد تَبيّنَ أنها حكومةٌ طبق الأصل عن حكومة "إعادة الثقة"، السابقة، لكن مع تغييرٍ في بعض الوجوه التي تمثِّل كل رموز السلطة اللبنانية، مُراعيةً الحصص التي أخَّر سعي كل زعيمٍ لضمانها التشكيلَ، غير مكترثٍ بما يترتَّب على التأخير من عذاباتٍ يوميةٍ يعانيها اللبنانيون. كما تَبيّنَ أن هذه الحكومة تُعوِّل على الاقتراض من الخارج لدعم الاقتصاد، وهو تكرار للفشل الذي زاد دين البلاد الخارجي، وبات وخدمة الدين يتجاوزان مائة مليار دولار، تعدم الدولة أي موارد لردِّ مليارٍ واحدٍ منه، على الأقل.
ثبت أن معضلة لبنان المزمنة لا تتعلق بغياب حكومةٍ، أو تأخُّر تشكيلها عشرة شهورٍ، بل تكمن 
بإعادة تدوير المشكلات والأزمات التي ما زال يعانيها، منذ انتهاء مرحلة القتال الأهلي، ودخول البلاد في مرحلة سلمٍ أهليٍّ، أبطاله هم أنفسهم أبطال مرحلة الحرب. كما تكمن في انتهاج كل حكومةٍ أسلوب الحكومة التي تسبقها في حلِّ هذه المشكلات والأزمات، وبالتالي يتكرَّر الفشل. من جهةٍ أخرى، وكما كان يتم إغلاق منطقةٍ بالحواجز والقصف والقنص، وتهديد حياة أهلها، وفق مزاج قائد هذه المليشيا أو تلك، كذلك هو الأمر الآن، حيث تُشلُّ حياة البلاد السياسية والاقتصادية بسبب التجاذب السياسي الذي يُتقنه قادة السلم الأهلي. وتبقى حياة الناس وأشغالهم رهنَ مزاج هذا الزعيم السياسي، الطائفي بالضرورة، الحائز دوماً على ولاء فقراء أبناء طائفته الذين يربطون مصيرهم بمصيره، ومصير حقيبةٍ وزاريةٍ لا يجد غضاضةً في إغلاق البلاد للظّفر بها.
وفي هذه الأجواء، يظلّ زعماء لبنان يتصارعون على حصصهم في مؤسسات دولتهم، بعد أن ضمِنوا انضواء أبناء طوائفهم تحت أجنحتهم، موفِّرينَ لزعيم طائفتهم القوة والعصبية التي يحتاجها لتقوية موقفه التحفُّزي إزاء زعماء الطوائف الآخرين، ما يساهم في ضمان حصّته، وربما الاستزادة، كما كان الموقف في التنازع للفوز بأكبر عددٍ من الحقائب الوزارية في الحكومة التي كان إعلانها دائم التأجيل. ويذكِّر الوضع في لبنان، مع حال الضعف التي تمر بها دولته ومؤسّساتها، ومع صراع زعمائه على هذه المؤسسات، وغياب الخطط المستقبلية، بالدولة العثمانية بعد خسارتها الحرب مع روسيا، في القرن الثامن عشر، وتصارع الدول الأوروبية للفوز بمستعمراتها، الصراع الذي أُطلق عليه يومها تسمية "المسألة الشرقية". لذلك ترسَّخ ما يمكننا تسميته "المسألة اللبنانية"، مع فارق أن الحرب اللبنانية خاضها أبناء البلاد، وأطال صراعُهم من عمر تلك الحرب، ثم قاوموا، في وقت السلم، ترسيخ مؤسساتها من أجل إضعافها، ليصير صراعهم على حصصٍ من جثتها.
ولطالما حرِص أقطاب النظام اللبناني على استمرار شكل حكم دولتهم بأسلوب التوافق والتوازن الطائفيين، حتى باتت الدولة اللبنانية طائفيةً بامتياز. والدولة الطائفية بالضرورة ضعيفةٌ، أسهم 
الإمعان في تطييف مؤسساتها وتكريس هذا التطييف في جعلها مريضةً، لا تستطيع الفكاك من أعراض مرضها الطائفي، لتنطبق عليها تسمية "الرجل المريض" التي كانت تطلق على إمبراطورية الدولة العثمانية، والتي ساهم تفخيخ الدول الغربية أطرافها والانقضاض على جسدها، خلال الحرب العالمية الأولى، في تدميرها. كما تعتمد الدولة الطائفية في تأبيد نظامها على فكرة فرادة لبنان، فرادةٌ تمنع التغيير وتتمنَّع عنه. ساهم هذا المنع، وذاك التمنّع، في تأبيد أسلوب الحكم التوافقي، وأسلوب إدارة البلاد واقتصادها، الذي يكرِّس التوافقُ خطأه الذي يتجلى دائماً في توالد المشكلات والأزمات الجديدة من رحم المشكلات القديمة، فحكوماتٌ لا رؤى مستقبلية لديها، ولا خطط تُسيِّر اقتصادها، هي حكوماتُ بلدٍ مأزومٍ، بحكوماته التي تخرجها طوائفه على صورتها.
ينطلق المنطق اللبناني في تأبيد التوافق والتوازن الطائفيين من أنه في لبنان، المجتمع المتعدّد، تعدّداً طائفياً، تقوم الطائفة فيه بدور الوسيط بين الدولة والمواطن (ابن الطائفة). وللدولة هنا دورٌ تحكيميٌّ موازنٌ بين الطوائف. كما أن لها دورا في مَأسَسَة الطوائف في مؤسسات، يصبح بذلك لدولة المؤسسات بديل هو المؤسسات الطائفية التي تشكل الدولة، فتصبح العلاقة هنا مصيريةً بين الدولة والطائفة، لا قيامة للأولى من دون قيامة الثانية. لذلك تأخَّر تشكيل الحكومة اللبنانية، حتى يكتمل التوازن التحاصصي بين الطوائف، يوازن بين حجم الطائفة وعدد ممثليها في الحكومة. ربما من هنا ابتهج الجميع، الجميع الذي كان خائفاً على مصير الدولة، إن اختل توازنها، باختلال التوازن بين طوائفها، إن لم تخرج الحكومة متوازنةَ التمثيل.
ولكن، ما مصير الفقراء؟ وما مصير المشكلات الاقتصادية ومستقبل البلاد ومشاريعها التنموية وخططها الاقتصادية ورؤاها للعقود المقبلة؟ "لا خوف أبداً على مستقبل لبنان"، تلك هي العبارة التي يُتحِفُ أهل السلطة أبناءَ البلاد بها، بعد إنجاز انتخاباتٍ تؤبِّد سلطتهم، أو تشكيل حكومةٍ تؤمّن مواردهم المالية لضمان مستقبلهم، وبالتالي مستقبل الطائفة التي تتماهى بهم، ويتماهون بها. ومع كلٍّ حكومةٍ، ينزع بها زعيم الطائفة الخوفَ من المستقبل من أفئدة التّابعين، يتكرّس تأَبُّد "المسألة اللبنانية"، وإن آخر أخبار هذه المسألة تفيد بأن الرجل ما زال مريضاً.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.