عن عودة بنكيران إعلامياً

عن عودة بنكيران إعلامياً

03 فبراير 2019
+ الخط -
عودة الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، إلى المشهد السياسي في المغرب، من خلال خرجات (إطلالات) إعلامية متوالية في الأسابيع الماضية، بعد انقطاع استمر عدة أشهر، بمثابة تفنيد لما يروج من أقاويل بشأن استعداد الرجل لإعلان اعتزاله ملعب السياسة. يصعب على من يعرفه عن قرب تصديق هذا الكلام، فأمثاله عادة لا يعتزلون، لأنهم يرون السياسة منهج حياة وأسلوب عيش، قبل أن تكون مهام انتدابية في مؤسسات الدولة من حكومة وبرلمان. ولكن عودة إطفائي الربيع المغربي هذه المرة لم تكن موفقةً، وهو الذي كان قد شغل الناس، وغامر بمستقبله السياسي أكثر من مرة في ولايته الحكومية؛ ما عُد حينها سابقة في التاريخ السياسي المغربي، واستطاع تحويل المتناقضات إلى نقطة قوة، جعلت منه خطيبا سياسيا ورجل تواصل بامتياز.
حاول الرجل في كل خرجاته فرض مسافة أمان بينه وبين حكومة سعد الدين العثماني، فهو لا يقف عند حصيلتها كثيرا، كما لا يغامر في الثناء على منجزاتها. وفي الوقت نفسه، لا ينخرط في جلدها، حتى لا يتهمه حلفاء إخوانه بالتشويش عليها. وإن كان يدرك، في قرارات نفسه، أنها تحالفٌ أوهن من بيت العنكبوت.
أخطأ بنكيران التقدير حين هاجم دعاة "الملكية البرلمانية" في المغرب، ودعا إلى الحفاظ على الدور المركزي الذي تحظى به المؤسسة الملكية في السلطة، سواء تعلق الأمر بالقضايا الاستراتيجية التي تبقى ثابتةً، وإنْ تغيرت الحكومات. أو تعلق بالقضايا العادية التي يوكل تدبيرها إلى الحكومات المتعاقبة، والتي تتطلب بدورها تشاورا مستمرا بين الطرفين، مؤكدا أنها الخيار الوحيد المتاح أمام المغاربة لضمان الاستقرار والإصلاح معا.
تعدّدت التأويلات التي أعطيت لهذا الهجوم المقصود من الرجل على أنصار الملكية البرلمانية،
 بين من يرى فيه محاولةً للتصالح مع المؤسسة الملكية، والتكفير عن بعض زلاته إبّان فترة رئاسته للحكومة. ومن يعتبر أن المسألة تتعدّى الشأن الخاص نحو الدفاع عن الملكية ضد النقد الحاد الذي تعرّضت له من هشام العلوي ابن عم الملك؛ في مقابلاتٍ تلفزيونية عديدة. وتأويل ثالث يربط المسألة بطبخةٍ يجري الإعداد والتحضير لها في الكواليس، من أطيافٍ من المجتمع المدني بشأن هذا الموضوع.
مهما يكن من أمر، الظاهر أن عبد الإله بنكيران نسِي، أو تناسى، أن طيفا كبيرا ممن ساندوه؛ من مشارب سياسية مختلفة، في محنته طوال خمسة أشهر من الانسداد الحكومي (البلوكاج). وحتى قبل ذلك، وهو يخوض معاركه الشرسة ضد الدولة العميقة، في النصف الثاني من ولايته الحكومية، لم يفعلوا ذلك حبا في بياض لحيته، أو اقتناعا منهم بالمشروع السياسي لحزب المصباح (العدالة والتنمية)، بل وفقط لاعتقادهم بأن الرجل اطلع على أعطاب السياسة في دواليب الدولة، ما يجعله الأقدر على فهم وإدراك حاجة البلاد الملحة إلى إقرار ملكية برلمانية، لرسم الحدود بين مختلف المؤسسات، والإعلاء من مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وأخطأ بنكيران التقدير ثانية، في الطريقة التي برّر ودافع بها عن معاش استثنائي؛ قُدر بحوالي تسعة آلاف دولار شهريا، منحه إياه عاهل البلاد؛ عن ولايته الحكومية التي دامت خمس سنوات، متحجّجا بالضائقة المالية التي يعيشها منذ مغادرته موقع المسؤولية. أعادت واقعة المعاش إلى الواجهة تهمة "ازدواجية الخطاب" التي كانت رديفة الإسلاميين، فالرجل تعفّف عن طلب المعاش العادي، وفق الإجراءات القانونية المعمول بها، لكنه رضي بالمعاش حين جاء مبلغه مضاعفا من القصر الملكي مع سيارة خاصة، بدعوى أنه هدية من الملك، والهدية في الإسلام لا ترد.
كيف سيقنع الرجل، بعد هذا الحدث، الفئات الضعيفة والهشة في المجتمع المغربي، والتي اعتبرته على الدوام حاملا همومها ومدافعا شرسا عن حقوقها. إذ كان منذ زمن المعارضة ينتقد معاشات الوزراء والبرلمانيين وتعويضاتهم. أكثر من هذا، تمت في ولايته الزيادة في مبلغ الاقتطاعات، بغرض إصلاح منظومة التقاعد التي كانت على وشك الإفلاس.
ويبدو أن بنكيران استشعر، بذكائه السياسي، أن لحظة الأزمة وانحسار الأفق ومحدودية أوراق اللعب بيد المخزن (القصر)، فرصة ذهبية ينبغي استغلالها من أجل الرجوع إلى المشهد السياسي، بعرضٍ جديدٍ يضمن له حسن التموقع في خريطة الخيارات المتاحة أمام المؤسسة الملكية. ولم لا، تدبير صفقة جديدة، تمكن الأخيرة من تجديد مشروعيتها، بعدما خفُت بريق سردية "الإصلاح في ظل الاستقرار" التي أُطلقت منذ عام 2011.
يظن الرجل أن مظلومية الإبعاد القسري من الحكومة، وعدم القبول الكلي بالحكومة الحالية، 
والنقد المستمر لبعض الزعامات الكرتونية في المشهد السياسي في المغرب، تكفيه للحفاظ على رصيده الشعبي والجماهيري الذي مكّنه من مليوني صوت، في آخر استحقاق انتخابي. لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فجزء من النخبة، بمختلف توجهاتها الأيديولوجية، تسانده طمعا في حمل لواء الانتقال نحو الملكية البرلمانية. أما عموم المواطنين المغاربة البسطاء؛ ممن لا يفهمون كثيرا في ألاعيب السياسة، فينظرون فقط إلى مدى توافق الأقوال والأفعال؛ أي المطابقة بين الخطاب والممارسة.
على هذا الأساس، يكون بنكيران قد خسر أنصاره جزئيا من الفئتين معا؛ من النخبة لمعارضته لمطلب الملكية البرلمانية التي كان المغاربة قاب قوسين أو أدنى من تحقيقها زمن الربيع العربي، لولا إعمال المخزن سياسة التوافقات. ومن عامة المواطنين، ممن يرون في قبول الرجل المعاش الاستثنائي ممارسةً ريعيةً تنزع عنه المصداقية، وتكشف حقيقة التعفف والزهد.
مهما تكن النتائج مستقبلا، وعلى فرض أن الرجل عاد إلى واجهة التدبير الحكومي، بعدما كذبت خطوة المعاش الملكي ما يشاع من غضبةٍ ملكيةٍ عنه، فالمؤكد أن أسهم بنكيران في بورصة السياسة سوف تتراجع، وأن صورة الزعيم الوطني التي نحتت في مخيلة الذاكرة الجماعية للمغاربة تعرّضت لخدوش بسبب الإطلالات الإعلامية أخيرا.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري